هل تبطل الصلاة في مسجد فيه قبر أم تصح مع التحريم أم تصح مع الكراهة؟
صلى الله عليه وسلم قد أطلق كثير من العلماء المتأخرين كراهة الصلاة في المساجد التي بها قبر، وقد نقلوا عن الأئمة الكبار نحو هذا الأمر، كما قال الشافعي رحمه الله: أكره أن يتخذ المسجد على قبر أحد، أخشى عليه الفتنة وعلى من بعده.
فظن البعض أن (أكره) هنا معناها: كراهة التنزيه، وهذا لا يظن بـ الشافعي رحمه الله، وإنما هو تأدب من العلماء رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يستعملون لفظ الكراهية على بابها الشرعي، وذلك أن الله عز وجل قال عن الشرك وعقوق الوالدين وقتل النفوس والزنا وغير ذلك: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، فهم يستعملون الألفاظ الشرعية كراهة أن يستعملوا لفظ التحريم إلا فيما نص الشرع على أنه محرم، لكنهم يعنون بالكراهة كراهة التحريم، فهذه الكراهة الشرعية صريحة في أن ذلك من باب سد الذريعة؛ لخوف الفتنة، لا لاعتبار أن ذلك بما يتنجس من صديد الأموات وما يصيب الأرض من آثار أبدانهم فإن ذلك ليس بعلة، ولا لأنه قبر واحد أو اثنان أو ثلاثة كما فرق بعض المتأخرين من الحنابلة فقالوا: إنما تسمى مقبرة إذا كانت ثلاثة قبور فأكثر، أما إذا كان قبراً واحداً فلا يسمى مقبرة، فظنوا أن النهي معلق بعدد القبور، ولذلك قالوا: إن هذا التفصيل لا دليل عليه.
والصحيح الذي لا شك فيه أنه قد تسمى مقبرة وفيها قبر واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت الأرض مسجداً إلا المقبرة والحمام).
والذي لا شك فيه أن العلة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد ليست النجاسة؛ لأن النجاسة غير موجودة، فالمؤمن لا ينجس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمن طاهر حياً وميتاً على ظاهر الأدلة، هذا أولاً.
ثانياً: ليس لأجل تسميتها مقبرة بوجود ثلاثة قبور فأكثر أو أقل، وإنما ذلك كما فهمه الشافعي رحمه الله بقوله: أخشى عليه الفتنة وعلى من بعده، وذلك خشية الفتنة بالوقوع في الغلو المذموم ومجاوزة ما شرع الله عز وجل في حق الأموات من الدعاء لهم، وليس طلب الدعاء منهم فضلاً عن دعائهم هم، وكل ذلك يقع بسبب اتخاذ القبور مساجد.
إذاً: الكراهة التي نقلت عن بعض العلماء تحمل على كراهة التحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليلعن من فعل مكروهاً تنزيهياً، وإنما اللعن على الكبائر، لذلك نقول: إن اتخاذ القبور مساجد على الصحيح هو من الكبائر والعياذ بالله، وكما ذكرنا من ذلك: بناء المسجد حول القبر أو عنده، وقصد الصلاة في هذا المسجد، وقصد الصلاة إلى القبر بأن يجعل القبر في قبلته، وإذا اجتمعت هذه الثلاثة الأمور فهي أغلظ أنواع المحرمات في هذا الباب.
أما عن حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر فالقول بالبطلان منقول عن الإمام أحمد وقد رجحه ابن تيمية وابن القيم وهو قول الظاهرية، وهو اختيار الأستاذ سيد سابق رحمه الله، وذلك قول متجه خصوصاً فيما إذا كان الذي يأتي إلى المسجد للصلاة يعتقد فضيلة الصلاة عند القبر، فهو يقصد عين ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يأتي متبركاً معظماً لصاحب القبر بالصلاة عنده، فالصحيح في هذا أنه يعيد الصلاة؛ وذلك لأنه فعل الشيء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، وهذا أمر يؤدي إلى بطلان صلاته.
وأما إذا كان الإنسان إنما صلى في المسجد الذي فيه قبر وهو يعلم بوجود القبر لكنه متأول ويرى أن الصلاة لا تحرم في هذه الأماكن، وهو لا ينوي التقرب إلى الله في الحقيقة بالصلاة بجوار القبر، وإنما حضرت الصلاة فدخل فصلى، أو كان يحضر مجلس علم فحضرت الصلاة فصلى، أو أنه تقابل مع إنسان هناك، أو أنه كان على طريقه ففعل ذلك، فالصحيح أنه يكره ذلك كراهة تحريمية، لكن في بطلان الصلاة نظر؛ لأن هذا النهي في هذه الحالة لم يتوجه إلى ذات المنهي عنه وإنما فعل ذلك بغير قصد والله أعلم، ومن العلماء من يبطلها مطلقاً، والأحوط أن يعيد تلك الصلاة التي صلاها في مسجد به قبر.
وأما إذا كان لا يدري بوجود القبر وإنما علم بعد الصلاة فهذا لا يعيد الصلاة؛ وذلك لأثر أنس وعمر رضي الله عنهما؛ لأن أنساً مشى في الصلاة حتى جعل القبر خلف ظهره، ولم يخرج منها ولم يبطلها، ولهذا نقول: إن الصحيح في هذه الحالة أن الصلاة صحيحة وهو معذور؛ لعدم علمه بأن في المسجد قبراً، كما يحدث من كثير من الناس، ولكن إذا علم قبل أن يصلي فليخرج من هذا المكان؛ فإن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، فإذا كان الأمر كذلك فليصل حتى ولو في الطريق ففي الأرض سعة، حتى ولو خشي أن تفوته الصلاة لم يجز أن يصلي في هذا المكان بل يصلي في الطريق طالما الأمر فيه سعة ويمكنه الصلاة في أي مكان، لكن لو أن إنساناً حبس في مثل هذا المكان لكان معذوراً كالذي يصلي خشية فوات الوقت؛ لأنه كاره بقلبه ولا يستطيع غير ذلك.
فهذه بعض أحكام مسألة اتخاذ القبور مساجد، وهي مسألة شائكة وخطيرة جداً؛ لكثرة من ابتلي من المسلمين بوجود القبور داخل المساجد، وكثير من الناس يجعل هذه المسألة مما يستهان بها، ولذلك تجد كثيراً يرون عدم الخوض في هذه المسألة؛ لأن ذلك ينفر طائفة من الصوفية، وهذا كلام منكر، بل يجب أن نبلغ الحق؛ لأن ذلك ذريعة إلى الغلو الذي هو ذريعة إلى الشرك.
أيضاً ننبه إلى أنه ليس كل من صلى في مسجد به قبر يكون مشركاً؛ لأن كثيراً من الناس يظن ذلك ويتوهم هذا وهو كلام خطير، إذ إن اتهام المسلمين بالشرك خطر كبير، فيقول بعضهم: إن فلاناً هذا يصلي في المساجد التي بها قبور فهل تصح الصلاة خلفه؟ فلمجرد أنه صلى في المساجد التي بها قبور يجعله ملحقاً بمن يعبد القبور! فهذا لا يصح؛ لأن هناك فرقاً بين اتخاذ القبور مساجد وبين عبادة القبور، فلابد أن يظهر من الشخص ما يثبت أنه من عباد القبور، ولا يجوز أن نحكم بالعموم لكل من صلى في مسجد البدوي أو أبي العباس أو غيرهما بأنه يعبد هؤلاء، حتى وإن صلى هناك وكان يتبرك بالصلاة إلى جوار القبر، وحتى لو رجحنا أن الصلاة فيه باطلة مع أن جمهور العلماء يجوزونها مع الكراهة، لكن الراجح أن هذه الكراهة كراهة للتحريم؛ لأنه لا يظن بهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يلعن على كراهة التنزيه، لكن يعتقد أنه غير مشرك في صلاته؛ لأنه ما صلى إلا لله، وما دعا غير الله، والمشرك هو الذي صرف شيئاً من العبادة لغير الله، بأن نذر أو ذبح أو سجد لصاحب القبر، أو حلف به معظماً له كتعظيم الله ونحو هذا، أو طاف بقبره ظناً منه أن ذلك أفضل من الطواف بالكعبة أو يماثله، فهذا الذي يعد شركاً، أما مجرد الصلاة والدعاء بجوار القبر فهذه بدع وضلالات لا ترتقي إلى الشرك الأكبر، لكنها ذريعة له، فيخشى على صاحبها من ارتكاب الشرك الأكبر والعياذ بالله من ذلك.
لذلك ليس كل من صلى في المساجد التي بها قبور يكون مشركاً، بل الأمر يحتاج إلى تفصيل: فينظر إلى فعل هذا الشخص: أيعبد صاحب القبر؟ أيصرف له شيئاً من العبادة، أم أنه يصلي هناك فقط؟ فإذا علمنا أنه يصرف العبادة لغير الله فلابد أن تقام عليه الحجة قبل أن تكفره بعينه، فقد يعذر بسبب الجهل في هذا المقام وكثرة التلبيس، والله تعالى أعلى وأعلم.