قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه قبل أن يموت بخمس على المنبر: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد).
وفي رواية في السنن: (يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة بين وحذر من أخطر طوائف البدع، فقد حذر من خطر الرافضة الذين يكرهون أبا بكر ويسبونه فقال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً).
وحذر من نفاة الصفات كالجهمية، فقال: (ولكن صاحبكم خليل الرحمن).
وحذر من غلاة الصوفية الذين اتخذوا القبور مساجد فقال: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
وأرسل علياً بأن لا يجد قبراً مشرفاً إلا سواه.
فالبناء على القبور منهي عنه أصلاً، وفي الحديث الصحيح أيضاً: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر ونهى أن يجصص).
فمجرد وجود البناء على القبر منهي عنه.
فقوله: ((ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا)) هذا منهي عنه في شريعتنا إن ثبت أن ذلك كان مشروعاً لهم، وليس ما قاله البعض من أن اتخاذ القبور مساجد كان جائزاً في شريعتهم، وقد ورد في شريعتنا ما يخالفه، بل لم يكن جائزاً لهم بنص الحديث وإلا فعلام الويل؟ فالويل على أنهم اتخذوا القبور مساجد، وذكرت أم حبيبة وأم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة فيها الصور، فقال: (أولئك إذا كان فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله).
ولقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
فاتخاذ القبور مساجد من الغلو في الصالحين، فلا بد أن نفسر القرآن بالقرآن، قال تعالى: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)) فهؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم من الضالين الذين فعلوا ما نهى الله عنه من الغلو، وما لعنهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأن الله لعنهم؛ لأنهم اتخذوا القبور مساجد، وهذا فيمن سبقنا من أهل الكتاب والآية فيهم، فلا نزاع بأن هذا النص العام دخل فيه هؤلاء بالقطع واليقين، ولذلك نقول: إن الصحيح الذي لا شك فيه أن هؤلاء مذمومون في الكتاب والسنة على فعلهم ذلك، وإن كانوا من أهل الإسلام في الجملة فلا يلزم من ذلك صحة تصرفاتهم، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل ما صنعوه مشروعاً لهم، فضلاً عن أن يكون مشروعاً لنا، وقد علمنا بلعن النبي صلى الله عليه وسلم لمن بنى المساجد على القبور أنه ليس من شريعتهم اتخاذ القبور مساجد، ونعلم يقيناً أن البناء على القبور مطلقاً منهي عنه في شريعتنا، فشرع من قبلنا يصير شرعاً لنا إذا لم يرد في شرعنا بخلافه، أما إذا ورد في شرعنا ما يخالفه فلا نزاع أنه لا يكون شرعاً لنا، وهذا مما ورد النهي عنه، وقد ورد شرعنا بخلافه، فضلاً أن اتخاذ القبور مساجد ليس من شريعتهم كما ذكرنا آنفاً، ومن أحسن المؤلفات التي جمعت الأحاديث المتواترة المستفيضة في ذلك كتاب الشيخ الألباني رحمه الله: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد.