ذكر ابن كثير رحمه الله قصة تعرف هؤلاء على بعضهم، وأن كلاً منهم كان يفر بدينه ولا يريد أن يبينه؛ لأنه لا يدري أن أحداً سيكون معه، وهذا من أعظم ما ينبغي أن ينتبه إليه كل داع إلى الله عز وجل، وكل عامل في مجال الدعوة إلى الله، وكل مجاهد في سبيل الله، بل كل مسلم في الحقيقة، كل منهم خرج وهو يظن أنه الوحيد، ولم ينتظر أن يكون معه أحد ليتبرأ ويترك دين الباطل، كلهم تركوا قومهم يعبدون الأوثان، وانصرفوا إلى الأرض الواسعة، وكل منهم يظن نفسه وحيداً.
لذلك لابد أن تكون ملتزماً بالحق ولو كنت ترى نفسك وحيداً، وهذه فائدة عظيمة، وهذه هي الغربة التي يستشعرها المؤمن حين يرى أكثر أهل الأرض يبتعدون عن دين الله سبحانه وتعالى، ولربما كان في مكان أو زمان لا يرى غيره على الحق، ولا شك أن النفوس تتأثر بمن حولها، وأكثر الناس يتبعون الغوغاء والكثرة، ويقولون: وجدنا الناس يقولون شيئاً فقلناه.
ولا حول ولا قوة إلا بالله! والناس دائماً تحتاج إلى من يحركها ويوقظها ويدفعها دفعاً إلى الخير أو الشر، إلا الأفذاذ من العالم الذين يتحملون أن يكونوا أفراداً في الحق ولو لم يجدوا على الحق معيناً، فكل منهم كان في نفسه أنه وحده وليس معه أحد، ثم جعل الله صداقتهم وأخوتهم وارتباطهم واجتماعهم على توحيده سبحانه وتعالى بعد ذلك.
إذاً: سر في الطريق وسوف تجد لك رفاقاً بإذن الله، خصوصاً في أمتنا التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام، (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وإياك أن تقول: هل أصنع ذلك وحدي؟ لو لم تجد أحداً يدعو إلى الله فكن أنت، لو لم تجد أحداً ينصر الإسلام فكن أنت، لو لم تجد أحداً يقول الحق فقل أنت، لو لم تجد من يطع الله سبحانه وتعالى فكن أنت الذي تطيع، واستحضر في ذلك من سبقك على طريق الهدى وما حولك من الكون المطيع؛ فإن من أقوى ما يعينك على الثبات على الحق: أن تستحضر أن الطريق الذي تسير عليه قد سار قبلك فيه خيرة الخلق، أنبياء الله وأولياؤه، فاستحضر على بعد الديار والأزمان مسيرهم، وأنك معهم، وإن افترقت الأبدان الآن فإن الأرواح مجتمعة، وكذلك استحضر أن الكون كله -إلا الثقلين- يعبد الله سبحانه وتعالى، وأن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض والطير صافات، وأن الله يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن.
فإذا استحضرت ذلك هان عليك أن تكون وحدك، وسهل عليك أن تقوم لله عز وجل بحقه، وإذا فعلت ذلك وسرت في الطريق يسر الله لك من إخوان الخير المعينين عليه من لا تعلم وجودهم الآن، ولا ترى مسيرهم معك، كيف إذا كنت ترى من يدعوك إلى الله عز وجل لتسير معه وتسمعه ليل نهار؟! لا عذر لك إذاً، ولكن هؤلاء الأفاضل الأفذاذ رضي الله تعالى عنهم من أصحاب الكهف كان كلٌ منهم يرى نفسه وحده، ومع ذلك قام وخرج وترك الباطل ولم يقلده قال عز وجل: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14].