هؤلاء الفتية ضحوا بمنازلهم المرفهة، وبوضعهم الذي كانوا فيه، وكانوا من أهل غنى كما سيذكر ابن كثير رحمه الله وغيره من المفسرين، فقد كانوا أهل سعة ومع ذلك صاروا إلى كهف، فليكن ذلك أيضاً أسوة الشباب إذا ضاق بهم أمر في سبيل الله، وإذا حصل لهم ما قد يضيق به كثير من الناس فلا بد من التحمل والصبر والاحتساب، والذي يعينك على ذلك أن ترجو الرحمة والرشد، وأن تدعو الله سبحانه وتعالى ألا يجعل الدنيا أكبر الهم، ومبلغ العلم، قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، فالرحمة من الله عز وجل لتطلب: ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهذه الرحمة بأن يستر عليهم ويحفظهم، وأن ينصرهم على قومهم الذين أرادوهم بالسوء وهم أرادوا الفرار بدينهم؛ ليثبتوا على ذلك الدين الذي هو أحب إليهم من كل شيء يريدون الثبات عليه، ولن يحصلوا على ذلك إلا برحمة من الله، فالله هو خالق أفعال العباد، ومقلب قلوبهم سبحانه وتعالى.
وكيف يثبت الإنسان على دينه والناس يطاردونه ويريدونه أن يتنازل عن شيء منه أو عنه كله؟ لن يثبت إلا برحمة من الله ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً))، وكما ذكرنا أن الرحمة المطلوبة في هذا الموضع: هي ستر الله عز وجل عليهم، ونجاتهم ممن يريدهم ليفتنهم عن دينهم، وليصرفهم عن هذا الدين، فأنت إذا ثبت على الدين كنت في رحمة من الله عز وجل، وتطلب منه المزيد: بأن يؤتيك الله عز وجل مزيداً من التوفيق والثبات: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا))، وذلك أن الإنسان عنده مواطن كثيرة تعتبر فرقاناً وفيصلاً في حياته يتخذ فيها قرارات، ويسير من خلالها يميناً أو شمالاً، فإما أن يستجيب لداعي الضلال الذي يطلب منه أن يبتعد عن طريق الالتزام، وإما أن يستجيب لداعي الرشاد فيتخذ طريق الحق طريقاً وسبيلاً، فهناك لحظات في تاريخ الإنسان لابد أن يستخرج فيها قراراً حازماً، إما أن يظل سائراً في طريق الالتزام، وإما أن ينحرف عنه ويبتعد، ويترك ذلك الدين؛ لأن الناس يطاردونه ويريدونه أن يترك هذا الدين، وهكذا كان هؤلاء الفتية، وفي يوم قرروا الانصراف من بلدهم والهجرة فراراً بالدين وثباتاً عليه، وإيثاراً لأمر الله سبحانه وتعالى وهم في ذلك يريدون أن يرشدهم الله، وماذا سيصنعون بعد ذلك؟! وإلى أين سيذهبون؟ فهم لا يعلمون، بل يطلبون من الله أن يهيئ لهم من أمرهم رشداًً، فإنما يريدون الثبات على الدين، ولا يأبهون بعملهم بعد ذلك، كما خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى طريق لا يعرفها، وإلى غاية لا يعلمها، فإنما يريد الفرار بدينه من الملأ الذين ائتمروا به ليقتلوه، فدعا ربه سبحانه وتعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، ودعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين، وقد كان، وهداه الله عز وجل سواء السبيل.
كذلك كان هؤلاء الفتية، فقد ثبتهم الله، وستر عن الظالمين حقيقتهم، وحفظهم سبحانه وتعالى، وثبتهم على الدين، وأرشدهم إلى ما صاروا إليه لقرارهم في ثباتهم على دينهم، وصاروا في هذه المنزلة الرفيعة حيث ذكرهم الله عز وجل في كتابه الذي يتلى إلى يوم القيامة، وصاروا ممدوحين للمؤمنين عبر العصور، يمدحهم المؤمنون ويحبونهم رغم أنهم لا يعرفون أسماءهم، ولا بلدهم، ولا زمانهم، ولا من النبي الذي كانوا يتبعون دينه، إنما هو دين الإسلام، لكن ما هو الزمان أو المكان الذي كانوا فيه يعبدون الله سبحانه وتعالى؟ لا يعلم ذلك، فجعل لهؤلاء الفتية هذا الشرف العظيم، وهيأ لهم من أمرهم رشداً كما سألوا ربهم سبحانه وتعالى، وهذا الدعاء من أعظم وأجمع الأدعية التي ينبغي أن يدعو بها كل مكروب مطارد أو كل خائف يريد أن يأوي إلى مكان يصبر فيه، ويثبت على دين الله سبحانه وتعالى، فاللهم ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشداً.