قال صلى الله عليه وسلم: (ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني).
لقد وصلت حيل ذلك الملك إلى طريق مسدود، وفشل في تحقيق أي غرضٍ من أغراضه، فلا الغلام رجع عن دينه، ولا استطاع قتله، ولا حتى تركه الغلام حراً في مملكته وهرب بنفسه ويترك الدعوة، بل عاد ليستمر فيها، فبدأت صورة الملك تهتز، وظهر بوضوح عجزه عن إيقاف السيل الجارف بدعوة الإيمان، ومع هذا فلا يزال العناد مسيطراً على فكره، فهو يريد الوصول إلى قتل الغلام بأي صورة، فيقول له الغلام: (إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به) وهذا الخبر من جملة كرامات الغلام، فإنه خبر عن استمرار عجز الملك في المستقبل عن قتله إلا بفعل ما يأمره به، وهذا نوع من الكشف والإلهام.
وتأمل قول الغلام للملك: (حتى تفعل ما آمرك به)، فالغلام هو الذي يأمر، والملك هو الذي يسأل عن تفاصيل الأمر ليطبقه، أي إهانة له أكثر من ذلك، وأي بطلان لدعوى الربوبية أوضح من ذلك، فهو عاجز لا يقدر، وجاهل لا يعلم، ومأمور بأمر غيره لا يستطيع أن يأمر، ولو أمر بطل أمره، ولو نفذ أمر الغلام لنفذ الأمر.
وليس الأمر للملك قطعاً، وإنما الأمر لرب الغلام، وقول الغلام للملك: (ثم تصلبني على جذع) ليظهر للجميع الظلم الواقع على الغلام بدون جريمة ارتكبها، إلا أن يقول: ربي الله، وهذا بالتأكيد من أسباب ميل الناس إليه، وتعاطفهم معه ومع دعوته، فقد فطر الله العباد على كراهية الظالم وعداوته، والميل إلى المظلوم ومناصرته، فإذا أضيف إلى ذلك أنهم يعلمون عن المظلوم حبه الخير للناس، وحرصه على الإحسان إليهم، وجربوه من قبل في قضاء حوائجهم، وكونه كان دائماً مستشعراً لمشاكلهم، في حين غابت مشاكلهم عن الملك وحاشيته، بداية من الدابة التي قتلها الغلام، وانتهاء بأمراضهم المستعصية التي كان لا يستطيع أحد مداواتها، بل ولا يلتفت الملك ولا حاشيته إلى محاولة مداواتها، فلا شك أن هذه الأمور مجتمعة تجعل هذا الجمع كله يعلم الظلم الواقع على الغلام، فعندما يتساءلون: ما جريمته؟ ولماذا صلب على الجذع؟ فسوف يقال: لا شيء إلا أنه يقول: ربي الله.
فهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله حريصين على ألا يكون لهم تهمة؛ إلا أن يقولوا: ربنا الله، مع إحسانهم إلى الناس، وعليهم ألا يحزنوا من الظلم الواقع عليهم، فقد قدره الله لحكم عظيمة، منها: انتشار دينه، وقبول الناس له، كما أن الظلم سرعان ما يزول فيكون لهم الأجر الجزيل عند ربهم وإلههم.
وقول الغلام للملك: (ثم خذ سهماً من كنانتي) فيه مزيد من إظهار عجز الملك، وأنه ليس بيده الأمر، فلو أخذ الملك سهماً من كنانته لما استطاع أن يقتل الغلام حتى يأخذه من كنانة الغلام؛ ليعلم الناس أن الأمر أمر رب الغلام، وأن قتل الغلام كان بإرادة الله لا بإرادة الملك.
وفي أمره أن يقول: (باسم الله رب الغلام) إعلان بالعجز التام، والافتقار القهري الاضطراري إلى الله سبحانه، وهو افتقار لا ينفعه ولا يثاب عليه؛ لأن المطلوب شرعاً هو الافتقار والعبودية الاختيارية لا الاضطرارية، وفي نطق الملك أمام الجموع: باسم الله رب الغلام، أثر عظيم في وصول الدعوة إلى من رأى ومن لم ير، وإنما سمع، فمن رأى ازداد يقيناً بقدرة الله رب الغلام وعظمته ووحدانيته.
فإن قيل: كيف أرشد الغلام الملك إلى طريقة قتله وتركه يقتله مع قدرته على الفرار، مع أن الإرشاد إلى قتل مسلم أمر يكرهه الله ويحرمه؟
و صلى الله عليه وسلم أن هذا يظهر لنا قضية فقه الدعوة بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فقتل الداعي إلى الله مفسدة كبرى بلا شك، ولكن مصلحة وصول دعوة الحق إلى الناس ورؤيتهم أدلة صدقها مصلحة أرجح وأكبر من مفسدة قتل الداعي، وهذا الغلام لم يكن عليه أن يؤمن الناس، ولا بيده ولا بيد غيره دون الله القدرة على أن يؤمنوا، فإنما ذلك لله وحده، لكن الواجب أن يوصلوا دعوة الحق للناس، فمصلحة الدين مقدمة على مصلحة النفس، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، فمن أجل ذلك جاز للغلام أن يدل الملك على طريقة قتله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه القصة: فيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل ظهور الدين؛ ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به من أجل مصلحة الجهاد، مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره، كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك أولى.
والله أعلى وأعلم.
فإن قيل: ألم يكن الغلام يعلم أنه من المحتمل أن يقتل الملكُ الناسَ لو آمنوا، بل يغلب على ظنه ذلك، وهو يعلم عجز الناس عن الدفع عن أنفسهم، فهو بالتالي قد ألزمهم الصبر على القتل؟
و صلى الله عليه وسلم أن الموازنة هنا بين البقاء على الكفر مع الحياة، أو الدخول في الإسلام مع القتل، ولا شك أن الدين مقدم على النفس، فإذا علمنا أن كافراً لو أسلم قتله أهله وقومه حتماً لم يجز أن نترك دعوته إلى الإيمان؛ لئلا يقتل، بل يلزم أن ندعوه إلى الإيمان ويلزمه الدخول في الدين ولو قتل، وإن كان يمكنه أن يكتم إيمانه حفاظاً على نفسه جاز له ذلك ولم يلزم الإعلان، وأما في قصتنا هنا فالأمر يختلف، فالناس لم يؤمنوا كلهم بعد، فلو تركوا لبقوا على الكفر، ولو أسلموا غلب الظن على قتلهم، ولا توجد فرصة لتعليمهم الدين جميعاً مع أمرهم بالكتمان كما فعل الراهب، فليس هناك مخالفة لما ذكرنا، لذلك نقول: إن مصلحة الدين مقدمة في هذه الحالة، وليصبروا على ذلك.