ونرى هنا أيضاً كيف حول الإيمان هذا الجليس من رجل لا يعرف إلا الدنيا والمال والهدايا، فإنه هو الذي قال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني)، ونرى كيف كان متعلقاً بالخلق ورجائهم، ثم تحول إلى هذه الشخصية الجديدة التي تبدو فيها الطمأنينة والرسوخ والجرأة في الحق، حتى يقول للملك في وجهه بكل ثبات: (ربي وربك الله، قال: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي!)، إنها جرأة عظيمة، وثبات عظيم، فلم يقل: الغلام، ولم يقل: شفاني بعض الناس، ولم يستعمل التورية ولا التعريض، ولم يقل: بركة جلوسك على العرش أيها الملك! أو من مجالستي إياك رد بصري، كما قد يفعل أهل النفاق الذين كل شيء عندهم من توجيهات الملك، وبركة أعماله العظيمة التي لا نظير لها في الوجود! نسأل الله العافية.
فهو كان على يقين أن الملك الجبار يدعي الربوبية صراحة لا تلميحاً، وهو بالتأكيد يعلم كم بطش الملك من مظلومين، وكم قتل وسفك من الدماء وعذب الأبرياء! حتى استقر له الملك الجائر، وحتى لم يجد طيلة المدة التي قضاها يدعي الربوبية من يقول له: لست لنا برب، بل لعل جليس الملك هذا كان ممن يروج لمقولته الفاجرة، وادعائه الكاذب للربوبية؛ بل بالإنفراد بها، فهو لم يكن يقول: أنا ربكم فقط، بل قال: (أولك رب غيري؟) نعوذ بالله! فهكذا يهاجر الإيمان بالمؤمن من العبودية لغير الله إلى العبودية لله وحده، ومن الخوف من غير الله إلى الخوف من الله وحده، ومن رجاء غير فضل الله إلى رجاء فضل الله وحده، ومن ظلمة الجهل وموت الكفر وقسوة الشك إلى نور العلم وحياة الإيمان وراحة اليقين.