قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجلس للملك كما كان يجلس، فقال: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي! قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله)، وجليس الملك كان يعلم أن الملك يدعي الربوبية، فجلس إليه وجهر بدعوة الحق في هذا المجال، وهو يعلم أن الملك سوف يكون له موقف، والدعوة في هذه المرحلة دخلت إلى طور جديد، ووصلت إلى مستوىً رفيع، وتغلغلت في المجتمع، حتى وصلت إلى الملك نفسه، وأصبح جليس الملك لساناً في الطبقة الحاكمة، قادراً على الجهر بها، وبيانها عن عقيدة وإيمان، رغم ما يعلمه حتماً من مخالفته للدين الرسمي للدولة وهو: أن الملك هو الرب، ويعلم ما سوف يجره ذلك من تبعات.
وفي هذا من الفوائد: أن مجالسة الظالمين والكافرين إن كانت بغرض دعوتهم إلى الله، ولا يكون ثمنها سكوتاً عن الحق، أو معاونة للظلم والطغيان فلا بأس بها، ولا حرمة فيها، فلا يلزم كل من التزم بدعوة الحق أن يترك منصبه الذي تبوأه في جاهليته ما دام التزم بالشرط الذي ذكرنا، وهو ألا يكون أداة للظلم، وسلاحاً للكفر والنفاق.
وأما إذا كان لا يمكنه البقاء إلا بالثمن الباهظ، وهو الإعانة على الظلم، فعند ذلك نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، ويقربون شرار الناس، فمن أدرك ذلك فلا يكون لهم عريفاً ولا شرطياً ولا خازناً، ولا جابياً).
وهناك بعض الجهلة الذين لا يفرقون بين الموالاة المحرمة ومجرد المجالسة التي تفتح المجال لإبلاغ الحق، أو الوظائف التي لا تعين على الظلم، وإنما هي إجارة مباحة، فضلاً عما قد يكون فيها من قضاء حاجة الناس، مما يحببهم في الدعوة، فيأمرون كل من التزم بترك وظيفته وهيئته، وإلا لم يكن مؤمناً، وهذا بلا شك مخالف لأدلة الشرع.