وفي هذا القول من الراهب استعمال للكتمان في بعض أمور الدعوة، فليس كل شيء قابل للإعلان والنشر، فقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة في السر مدة ثلاث سنين إلى أن تمكن من الجهر بها، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، ولا شك أن الأصل في الدعوة الجهر ما أمكن ذلك؛ لكن قد يطرأ من بطش الطغاة وظلمهم ما يقتضي الإسرار بها إلى حين زوال خطر استئصال الدعوة، وأيضاً يستعمل الكتمان بالدعوة بعد الجهر بها في المواطن التي يخشى معها ويحذر من إذاعتها، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا} فذمهم الله على إذاعة الأمر، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم السعدين إذا رجعا من بني قريظة بما يسر المسلمين من بقائهم على العهد أن يعلنا ذلك، وإذا رجعا عن نقضهم العهد أن يلحنا له لحناً يفهمه ولا يعلنا ذلك للناس؛ لأن كثيراً من الناس لن يتحمل قلبه ذلك البلاء، فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل الكتمان أحياناً حتى بعد التمكين والجهر بالدعوة، وهذا يكون حسب المصلحة.
فلا شك أن صفة من يذيع كل ما يسمع، أو يزعم أنه لا يصلح الكتمان نهائياً، لا شك أن هذه صفة من لم تهذبه التربية الإيمانية، فلا يدري ما يعلن وما يسر، وهذا النوع من أخطر الناس على الدعوة والدعاة، خصوصاً إذا قيل لهم عن أمر: إنه سر، فيبقى الواحد منهم قلقاً حتى يبوح به، فينتشر الخبر، بل إذا أردت أن تنشر خبراً ما فقل لواحد منهم: إن هذا سر، فسوف يظل قلقاً؛ لأنه ليس عنده التربية الإيمانية التي تجعله يكتم هذا الأمر، وهذا يقع ممن عنده ضعف التربية، وهذا لا يصلح أبداً أن تستعمل معه الكتمان أو تسر إليه بأمور، فإن ذلك يترتب عليه إعلانها بالتأكيد.
فانظر إلى نوعية ذلك الرجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ذلك الذي من شيعته، الذي استصرخ موسى واستغاث به، وهو الذي رأى أن موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني، وهو الذي باح بالسر، فكان هذا الإسرائيلي المشاغب الغوي المبين سبباً في إفشاء سر موسى عليه الصلاة والسلام، حين قال له: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص:19] فسمعها الفرعوني ولم يكن قد شهد وقعة الأمس، ولم يكن قد شهد الوقعة غير موسى والإسرائيلي، فذاع الخبر، واضطر موسى للخروج من مصر فراراً بنفسه ودينه.
فالواجب هو الرجوع إلى أهل العلم أولاً قبل نشر أو إشاعة أي أمر كما أمر الله، وإن كان الأصل أن يكون علنياً، إذ بالبيان يقوم الحق، وتظهر الحجة، ولا يلجأ إلى الكتمان إلا عند العجز أو الضرورة، أو المصلحة الراجحة.
وقوله: (وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدل علي) يعني: لا تخبرهم باسمي، ولا تخبرهم أني أنا الذي علمتك ذلك؛ قال له هذا لأنه يعلم أنهم سوف يبحثون عمن علمه هذا، فلن يكون قد تعلمه من فراغ، بل لا بد أن يكون قد التزم مع صاحب، ولا بد أن يكون قد التزم مع شيخ، فأين هذا الشيخ؟ ومن أين علمت هذا الكلام؟ فسوف يظلون يبحثون حتى يصلوا إلى معرفة الحقيقة.