قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه)، ونرى هنا نوعين من الطواغيت ينتشرون في كل زمان ومكان، هذا الملك الذي يدعي الربوبية ويقول للناس: لا رب لكم غيري، ولا إله لكم غيري، ومن الملوك من يقولها بلسان المقال ويصرح بها، كما قالها فرعون، وكما قالها هذا الملك كما سيأتي في القصة، ومنهم من يقولها بلسان الحال حين يأمر الناس بطاعته في معصية الله وفي الكفر بالله، ويجعل الإيمان حسب الإذن كما ذكرنا عن فرعون، ففرعون له طريق ومنهج، ولذلك فهو إمام يدعو إلى النار، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، وقد يقال: كيف يدعون إلى النار وقد ماتوا؟ فنقول: لأنهم أسسوا طريقاً ومنهجاً وأسلوباً للحياة يعيش به هؤلاء الذين يقولون للناس: لا تؤمنوا إلا إذا أذنا لكم.
وإبليس قد يدعي الإلوهية عند سخفاء العقول، ولكنه ارتضى من معظم البشر بأن يعبدوه وهم يلعنونه، فأكثر البشر يعبدون إبليس كما قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:60 - 62] أي: خلقاً كثيراً {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62].
وأكثر الخلق يلعنونه وهم يعبدونه، وقد رضي إبليس بذلك، فهو لا يسمى إلهاً، ولكن في نفس الوقت يعامل معاملة الإله، وكم من الطواغيت يطلبون ذلك، يريدون أن يعاملوا معاملة الإله وإن لم يسموا أنفسهم آلهة، وأن يطاعوا ولا يرد كلامهم، ولو في الكفر، ولو في الشرك، ولو في معصية الله.
وهذا نوع من الطاغوت، وهذا تجبر وتكبر، وهو مفسد في الأرض وإن زعم الإصلاح، وهذا من أعظم أنواع الفساد في الأرض، أن يدعو إلى عبادة غير الله، والملك هنا يستعين بساحر يقلب له الأمور، فالساحر يسحر أعين الناس حتى يريهم الأشياء على غير ما هي عليه، وحتى يقول الناس: هذه العصا حية، وهذا الحبل ثعبان، ولكل زمان سحرته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن من البيان لسحراً)، فالذي يجعل الباطل في أعين الناس حقاً يموتون من أجله، والذي يجعل الحق في أعين الناس وقلوبهم باطلاً يريدون أن يدوسوه بالأقدام، هو والله من السحرة، وهو الذي يعضد ملك هؤلاء الطواغيت، فالناس اليوم عندهم أن العفة والطهارة تخلف، وأن الفجور والفحش تقدم، ألا ترونهم في بلاد من بلاد المسلمين كان الستر والحجاب والعفة لما كان أهل الإسلام يحكمونها، فلما دخل الكفرة إلى تلك البلاد خلعت النساء الحجاب وذهبن إلى الكوافير، وتفرج الناس على الأفلام وهم يموتون جوعاً، عجباً والله! ويفتخر أعداؤهم بأنهم قد تقدموا، وقد صاروا في حرية! وليست إلا حرية الفرج والبطن فقط نعوذ بالله، لكن هذا عند الناس هو التقدم، وهو الحرية التي يريدها الكفرة، وتملأ الدنيا صياحاً، فيقال: كفانا هذا الخطاب الذي يملأ حياتنا ضيقاً ونكداً، ويعنون الخطاب الديني، فهذا يكتب في الجرائد والمجلات نسأل الله العافية، وهذا يعلم الناس الباطل على أنه حق، ويعلمهم الحق على أنه باطل حتى يكرهونه أشد من كل الجرائم، ولربما صار بعض الناس إذا يرى ابنه مثلاً يشرب المخدرات والخمر أهون عليه من أن يراه ذاهباً إلى المسجد مع المتطرفين والإرهابيين كما يسمونهم؛ لأن الأمور قد انقلبت، والسحرة قد قاموا بعملهم، فسحروا قلوب الناس قبل أعينهم حتى صار الناس يفعلون الباطل على أنه الحق، ويتركون الحق على أنه من أعظم المنكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في انقلاب القلوب: (حتى تصير القلوب على قلبين، أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، وأسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).
وكما قال عز وجل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67].
لذلك نقول: فعلاً لكل زمان هذه النوعية من الطاغوتين المتعاونين، والساحر طاغوت كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم حده وحكمه، وقال غير واحد من الصحابة: حد الساحر ضربة بالسيف، وقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60].
فالسحرة والكهنة من الطواغيت ومع الذين يحكمون بغير شرع الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء دائماً يتعاضدون ويتعاونون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر)، وعجيب شأن هذا الساحر! لماذا يحرص على استمرار الشر من بعده؟ أيريد ثواباً من تعليم هذا الغلام السحر؟ لا يريد ذلك قطعاً، لكنه يعمل لحساب إبليس، فما المبرر أن يسعى في إيجاد جيل من السحرة من بعده ويستمر السحر من بعده؟
صلى الله عليه وسلم يحرص على ذلك لأنه تأتيه أوامر أخرى من إبليس اللعين أن يسعى في استمرار الشر والفساد، ونتعجب ممن لا يؤمن بالآخرة أصلاً ولا يوقن بها كعباد البقر مثلاً، لماذا يقاتلون من أجل عبادة البقر وعبادة الأصنام؟ لماذا يضحون بحياتهم؟ فالواحد منهم لا يؤمن بآخرة ولا يؤمن ببعث ونشور، ومع ذلك مستعد لأن يضحي بحياته وأن يموت من أجل أن تظل هذه العقيدة موجودة؛ لأنه كما ذكرنا يعمل لحساب الطاغوت الأكبر إبليس والعياذ بالله من ذلك.