الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من فوائد حديث قصة أصحاب الأخدود كما وردت في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر)، أننا نرى هنا التعاون بين رءوس الطواغيت، التي تعمل في النهاية لحساب الشيطان من أجل نشر الفساد في الأرض، ومن رءوس الطواغيت كذلك الملك الذي كان يدعي الربوبية صراحة، ومثله من يدعيها ضمناً، بأن يرغم الناس بما يراه هو من شرع دون رجوع لشرع الله عز وجل، فهذا نوع من رءوس الطواغيت الموجودة؛ لأنه يدعي لنفسه صفة وحقاً من حقوق الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو الحكم، والله سبحانه وتعالى له حق التشريع وحده لا شريك له، قال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
فالذي يدعي أن له أن يشرع للناس ما يراه هو عدلاً من غير رجوع إلى شرع الله، فهو قد تجاوز الحد، ونسب لنفسه ما هو من صفات الرب عز وجل، وما هو من حقوقه عز وجل، فبالتالي هو من رءوس الطواغيت، وربما زاد بعضهم حتى يصل إلى ما وصل إليه الملك صاحب القصة، كما كان عليه حال فرعون حيث قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وحال النمرود الذي قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، وغيرهم، ومع ذلك فكثير من الناس يستجيب لهم، رغم وضوح بطلان هذه الدعوة الباطلة التي ادعوها لأنفسهم.
والساحر الذي يدعي ملك الضر والنفع وتقريب القلوب، ويدعي تغيير الخلق، بأنه يغير الخلق هذا إلى شيء آخر، ويجعل هذا يحب هذا، أو يبغض هذا؛ فهذا أيضاً طاغوت من الطواغيت، جاوز الحد حين نسب لنفسه صفة من صفات الرب سبحانه وتعالى، الذي يجب أن نصرف كل العبادات له عز وجل، ومن ذلك أن نلجأ إليه ونصمد إليه في جلب المنافع ودفع المضار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر).
وقد ثبت قتل الساحر عن ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم، واختلف العلماء في كفر الساحر، فمنهم من أطلق تكفيره، وإن كان أصحاب هؤلاء الأئمة قد ذكروا التفصيل، ومنهم من بين -كالإمام الشافعي رحمه الله- فقال: يقال للساحر: صف لنا سحرك، فإن كان يتضمن كفراً كفر، كمن يتقرب إلى الكواكب السبعة أو الشياطين، أو يتضمن كفراً بوجه من الوجوه، كمن يذبح للشياطين والأصنام، أو كمن يسجد لها، أو كمن يستهزئ بالمصحف، ونحو ذلك ممن يرتكب شركاً أكبر لتحقق له الشياطين ما يريد، فهذا النوع من السحر كفر بلا نزاع، وإذا كان سحره بغير ذلك قال الشافعي: فإن استحله كفر.
والصحيح أن السحر المتعلم من الشياطين ومن هاروت وماروت كفر؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]؛ لأنه لا يتمكن من هذا النوع من السحر المتعلم من الشياطين إلا بتقديم القربات لهم، وتركه الإيمان بالكلية، وأما السحر الذي هو بأدوية وتدخين وخداع بالبصر، فهذا الصحيح فيه أنه لا يكفر فاعله إلا أن يستحله.