القول في الهدي

إن الله سبحانه لو شاء لأمن من في الأرض جميعاً كما أنه لو شاء لأيَّد الأنبياء بآية تذهل لها الألباب وتخضع لها الرقاب ولأوطأهم رقاب الخلق حتى ينقادوا إليهم وذلل لهم الجبابرة حتى يطيعوهم، ولكنه ابتلى بعضنا ببعض ورفع بعضنا على بعض حكمة بالغة ومشيئة نافذة، فكان مَنْ سلف من الأنبياء قبل محمَّد، عليه وعليهم الصلاة والسلام، ما بين مظهر من الخلق أو مغلوب بالملوك والجبابرة أو منصور بالقتال. ولما بعث الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم -، اختار له جزيرة العرب وأنزل بها أباه إسماعيل، عليه السلام، ومهَّد الله حالها من ذلك الحين بلاد جدب ومواضع وحشة تنفر عنها قلوب الخلق، ومهد فيها العرب لما أراد الله تعالى من فضيلتهم وكأنوا قوماً فوضى لا ملك عندهم. وقد كان نفذ القضاء بأنَّه لا بدَّ للخلق من وازع حين كانت الاستطالة والتظالم سليقة الجبلة .. وجعل الله تبارك وتعالى الذمام في العرب والجوار .. دفعاً عن المظلوم، ثم لم يستقل هذا الخصوص بعموم التظالم في الخلق فجعل الكعبة معظمة في النفوس .. وذا هيبة في القلوب، وألقى في روعهم أنها مواضع أمن لا يُراع فيها أحد ولا يُؤخذ فيها بحق، وبالغ في تعدية الأمن فحرم أذاية الصيد وزاده تأكيداً بأن حرَّم الحطب والحشيش حتى تمكنت تلك الهيبة في قلوبهم وصار الحرم مأوى لأمنهم وامتنَّ بذلك عليهم فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (?) ثم كان البيت نائياً عن أقطار العرب فلم تكن تعمّ العصمة فجعل الأشهر الحرم، وهي ثلث العام، محرَّمة معظَّمة ليستريح إليها المضطهدون ويأمن فيها الخائفون، وقرر ذلك في نفوسهم تقريراً نتهى إلى أن يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يروعه. ثم كانت الأشهر الحرم لا تستقل بعموم الزمان فجعل الهدي قائماً مقامه؛ فكان إذا خاف الرجل حلق رأسه وأشعر هديه وقلّده وخرج باسم البيت لا يروعه أحد. فقامت هذه العواصم مقام الملك العاصم يقوم بأحوال الخلق في المصالح ويدفع عنهم المضار، وعن هذا المعنى عبّر تعالى بقوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} (?) الآية. فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، بالنبوَّة على أمة خالية من الملوك والقوة فكان ذلك أسمح للقبول وأبلغ في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015