أن هذا يقتضي تعديد الدهرِ في أسماء البارئ تعالى. وذلك باطل ولكن خرجَ هذا على عَادة الجاهلية في نسْبتها الأفعال إلى غيرِ الله تعالى من الأسباب المتردّدةِ، والحوادث المتعاقبة، فإذا جاءَ الخلقُ من ذلك ما يحبُّون، فرِحُوا بذلك المتاع، وإذا جاءهم ما يكرهون عكفوا على الدهر يسبُّونه وينسبونه إلى اللوم والإذاية، فأراد النبي- صلى الله عليه وسلم - أن يطهِّر عقائدهم من هذا المنزع الخبيث، ويعلمهم بأن هذه الأفعال التي يكرهون، والأفعال التي يحبُّون، ليست منسوبة إلى الأسباب، ولا محسُوبة على الحوادث، وإنما هي كلها مضافة إلى الله تعالى تقديرًا وخلقًا، وسبّ الحكم والمعلول سبَّ للعلة، فإنك إذا قلت فعلَ الله بفلان كذا كذا وكان المشار إليه باللوم موجودًا في غيره فَقد دخلَ في حُكمهِ وأما قول عيسى عليه السلام للخنزير: إذهبْ بسلامٍ (?)، فإنه من أعظم أدَب الكلام لقوله أخَافُ أن أعوِّدَ لساني لمنطقِ السوء.
وُيروى أن الربيعَ بن خُثيم جاءه ابنه فقال له: أذهبُ ألغب؟ قال له: إذهب صلِّ. فقال له بعضُ جلسائِه ما هذا جَوابه؟ قال: كرهتُ أن يكتبَ في صحيفتي العبْ. وقد فهِمَ هو ما أراد.
وأما الباب الثاني: في التحفظ من الكلام ففيه إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يسترسل في الحديث بل يرويه في نفسه ويتدبره بَفكره وينظر في فائدته وعاقبته، وحينئذ يخبر به. فإنه قد يتكلمُ بالكلمة لا يلقي لها بالا فتهلكه (?) دنيا أو دينًا، ولذلكَ قالوا في المثلِ: "ما من شيء أحقُّ بطولِ سجنٍ من لسانِ" (?) ولذلك قال في الباب الخامسِ: (من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة) (?). الحديث.