هدنات الدولة النورية مع مملكة بيت المقدس الصليبية في صفقاتهم التجارية وكان من سياسة نور الدين الاقتصادية والمؤيدة بالشرع الإسلامي إلغاء

الضرائب وأخذ نور الدين في تنفيذ هذه السياسة منُذ فترة مبكرة، وكان حيناً بعد حين يصدر الأوامر ويعمّم الكتب والمناشير بإسقاط حشود الضرائب "اللاشرعية" التي كانت تأخذ بخناق المواطنين من جراء سياسات الابتزاز التي اعتمدها الحكام والأمراء الذين عاصروه وكانت شعبيّته تزداد باطّراد عجيب في خط متواز مع مقادير الضرائب التي كانت يأمر بإلغائها وهدد من لا يطبق ذلك

من المسؤولين: ومن أزالها زلّت قدمه، ومن أحلّها حلّ دمه ومن قرأه أو قرئ عليه فليتمثل ما أمرنا به وليمضه مرضياً لربه ممضياً لما أمر به. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن نشط الناس للعمل، فأخرج التجار أموالهم، ومضوا يتاجرون، وجاءت الجبايات الشرعية بأضعاف ما كان يجي من وجوه الحرام.

وسعى نور الدين محمود إلى تقديم أوسع الخدمات الاجتماعية لشعبه وجعل مؤسسات الدولة أدوات صالحة في خدمة الجماهير وسعت لتغطية شتى الحاجات، ابتداء من قضايا المسكن والملبس والمأكل وانتهاء بقضايا الروح ومروراً بالحاجات الفكرية والصحية والعمرانية والانتاجية وقد أخذت هذه الخدمات أساليب وأشكالاً مختلفة، فهي حيناً تأتي عن طريق التوزيع المباشر للمال وحيناً عن طريق (الإعانة) على تلبية حاجة معينة والفكاك من الأسر وحيناً ثالثاً عن طريق إنشاء مؤسسات ومرافق كالمستشفيات والملاجيء ودور الأيتام والمدارس ودور الحديث والخانات والربط والجسور والقناطر والقنوات والأسواق والحمامات والطرق العامة والمخافر والخنادق والأسوار وحيناً رابعاً تجي عن طريق نظم (الوقف) التي شهدت في عصر نور الدين قمة نضجها وتنظيمها وازدهارها وحيناً خامساً عن طريق عدد من الاجراءات التنظيمية التي استهدفت تحقيق الضمان الاجتماعي لقطاع ما من قطاعات الأمة.

وقد لاحظت في دراستي لفترة الحروب الصليبية أن انتصارات نور الدين وصلاح الدين ساهمت فيها عوامل متعددة منها على مستوى الخلافة نفسها ومنها على المستوى الشعبي ومنها على مستوى الوزارة، فقد أخذت مؤسسة الخلافة تسترج صلاحياتها وتقوى على ما كانت عليه في العهد السلجوقي الأول، وكذلك الوزارة العباسية في عهد يحي بن هبير الوزير الصالح والعالم الرباني، وكان الشيخ عبد القادر الجيلاني من زعماء الدعوة الشعبية والإصلاح العام في عاصمة الخلافة العباسية، فقد كانت عامّة الجماهير متعطشة إلى شخصية روحية رفيعة، تكون على تواصل بالشعب وطبقاته وجماهيره تؤثر في المجتمع بدعوتها ومواعظها وتزكيتها، وتوقظ في النفوس الإيمان وتحي فقه القدوم على الله وتحرك في القلوب الحب لله والحنين إليه، وتحث على الطموح وعُلَّو الهّمة وبذل الجهد في الحصول على علم الله الصحيح وعبادته ونيل رضوانه والمسابقة إلى سبيله وتدعو إلى التوحيد الكامل والدين الخالص ولقد كان هذا المصلح الكبير في شخص الشيخ عبد القادر الجيلاني واستطاع أن يؤسس مدرسة ساهمت مع الزنكيين في تحمل المسؤولية ومواجهة التحديات العقائدية والفكرية والاقتصادية، والاجتماعية وساهمت في إعداد جيل المواجهة للخطر الصليبي في

البلاد الشامية وقد استفاد عبد القادر الجيلاني من جهود من سبقوه وتعاليمهم وخصوصاً الإمام الغزالي الذي قام بدور عظيم في تاريخ الإصلاح والتجديد وحوّل تلك التعاليم إلى مناهج مبسطة يفهمها العامّة وطلاب العلم والعلماء فقد وضع الشيخ عبد القادر منهجاً متكاملاً يستهدف إعداد الطلبة والمريدين روحياً واجتماعياً، ويؤهلهم لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوفر لهذا المنهج فرص التطبيق العملي في الرباط المعروف باسم الشيخ عبد القادر حيث كانت تجري التطبيقات التربوية والدروس والممارسات الصوفية ويقيم الطلبة والمريدون، فالتحليل الدقيق للنظام التربوي الذي طبقه الشيخ

عبد القادر الجيلاني يكشف عن تأثير كبير بالمنهاج الذي اقترحه الغزالي (?).

وتعتبر تعاليم الشيخ عبد القادر ومدرسته ذات أثر ملموس ساهم في نهوض الأمة في عهد الزنكيين والأيوبيين وكان الشيخ عبد القادر على أصول منهج أهل السنة في الأصول والفروع وكانت له جهود مشكوره للتصدي للمذهب الشيعي الرافضي، وإعداد الأمة للجهاد ضد الصليبيين الغزاة وقد أثنى ابن تيمية على الشيخ عبد القادر واعتبره من أئمة الصوفية والمشايخ المشهورين الذين كانوا على الصراط المستقيم وإنه: من أعظم الناس لزوماً للأمر والنهي وشهد له بأنه من الشيوخ الكبار (?)، ثم شهد له أنه من أعظم مشايخ زمانه في الأمر بالتمسك بالشريعة الغراء بالتزام الشرع والأمر والنهي وتقديمه على الذوق ومن أعظم المشايخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية (?).

وفي الفصل الأخير من الكتاب تحدثت عن سياسة نور الدين الخارجية وعلاقته مع الخليفة المقتفي لأمر الله والوزير يحي بن هبيرة والخليفة المستنجد بالله ثم المستضيء بالله، وتكلمت عن جهود نور الدين وأخيه سيف الدين في التصدي للحملة الصليبية الثانية وحمايته لدمشق من الغزاة وأهم نتائج تلك الحملة، وعن سياسته في ضم دمشق، وكيف تعامل مع القوى الإسلامية والأسر الحاكمة في بلاد الشام والجزيرة والأناضول، وعن سياسته تجاه القوى المسيحية، وعلاقته مع مملكة بيت المقدس، وإمارة الرها، وأنطاكية وطرابلس وعن المعارك التي خاضها والحصون التي فتحها وعن علاقته بالأمبراطورية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015