والاستيلاء على حصني صافيتا والعزيمة شمالي، وإجراء أعمال نهب وتخريب واسعة النطاق؛ الأمر الذي اضطر الصليبيين إلى مراسلة نور الدين يعرضون عليه استعدادهم لإعادة ما أخذوه من المركبين وتجديد الهدنة بين الطرفين، فأجابهم نور الدين إلى ذلك لحاجته الماسّة - كما
يبدو - إلى هدنة كهذه (?). ويوما بلغه ما فعله جوسلين من إرسال السلاح - الذي كان قد استولى عليه إحدى معاركه مع نور الدين - إلى حميه السلطان مسعود حاكم سلاجقة الروم: فقام نور الدين وقعد، وهجر الراحة للأخذ بثأره، فأذكى العيون على جوسلين، وأحضر جماعة من التركمان وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين إما قتلا أو أسراً، لأنه علم إن هو جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وامتنع فأخلد إلى إعمال الحيلة (?). وكان نور الدين - كما يقول ابن الأثير: إذا فتح حصناً لا يرحل عنه حتى يملأه رجالاً وذخائر يكفيه عشر سنين خوفاً من نصرة تتجدد للفرنج على المسلمين فتكون حصونهم مستعدة غير محتاجة لشيء (?). وهكذا ترتبط جدّية نور الدين بذكائه الحذر ودهائه الذي حقق له الكثير من المكاسب والمنجزات والذي لم يتح لأحد من الأعداء في الداخل والخارج أن ينفذ لتوجيه ضربة أو إصابة مقتل، كان كما يقول ابن الأثير: يكثر أعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بلادهم به.
ويضرب على ذلك مثلاً سياسته مع مليح بن ليون ملك الأرمن في بلاد الأناضول: فإنه ما زال يخدعه ويستميله حتى جعله في خدمته سفراً وحضراً، وكان يقاتل به الفرنج وكان يقول: إنما حملني على استمالته أن بلاده حصينه وعرة المسالك، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق، وهو يخرج منها - إذا أراد - فينال من بلاد الإسلام، فإذا طُلب انحجر فيها فلا يقدر عليه، فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئاً من الاقطاع على سبيل التآلف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج، وحين توفي نور الدين وسلك من بعده غير هذا الطريق ملك زعيم الأرمن بعد مليح كثيراً من بلاد المسلمين وحصونهم، وصار منه ضرر عظيم وخرق واسع لا يمكن رقعه (?)، وفي محاولته فتح دمشق أدرك أن اعتماد العنف سيتفز حكامها ويدفعهم إلى مراسلة الصليبيين والاستعانه بهم، فعمد إلى أعمال الحيلة والسياسة فأخذ يراسل صاحبها مجير الدين ويستميله ويبعث إليه بالهدايا الموصولة ويظهر له المودة حتى وثق إليه وأخذ نور الدين يكاتبه مشككاً إياه بنوايا عدد من أمرائه وإنهم بصدد الاتصال به ضد ملكهم، الأمر الذي دفع مجير الدين إلى