نجدهم يعنون بحرفة الكتابة عناية بالغة، وهي عناية كانت تقوم على الزخرف والتنميق، حتى تتحول كتبهم السياسية إلى وشى وحلي خالصين، وما زالت هذه العناية تكامل، حتى كان مذهب التصنيع، وهو مذهب كان يعتمد على السجع من جهة والبديع من جهة أخرى، وأستاذ هذا المذهب -غير مدافع- هو ابن العميد، فهو الذي وسع -لأول مرة- طاقة الزخرف في تعبير النثر وتحبيره، وخلفته جماعة أوفت بهذا المذهب إلى الغاية، التي كانت تنتظره فإذا كتبابتهم زركشة خالصة، وما يطوى في هذه الزركشة من تطريز بالسجع وترصيع بالبديع.
ونستمر حتى أواخر القرن الرابع، فإذا الحضارة العربية تتحول إلى فنون من التعقيد في جميع جوانبها، ولم يشذ النثر على هذه الحال، فقد رأيناه يتعقد تعقدا أتاح لظهور مذهب جديد في النثر العربي، وهو مذهب التصنع، وهو مذهب كان يقوم على تصعيب طرق الأداء، وتعقيدها ضروبًا مختلفة من التعقيد، وحقق أبو العلاء لهذا المذهب كل ما يمكن من تصور التصعيب، وتبعه الكتاب من أمثال الحريري، والحصكفي يحاولون -بكل ما في وسعهم من جهد - أن يضيفوا عقدًا جديدة إلى عقد أبي العلاء، كأنما التعقيد غاية في ذاته! واستمر هذا المذهب مسيطرًا في المشرق، فلم يخرج بعده مذهب جديد، وإن الإنسان ليخيل إليه، كأنما تعطلت الأداء العباسية، التي كانت تخرج المذاهب، فلم يعد هناك إلا الجمود والتحجر الشديد.
وهذه هي موجات الفن، أو الصناعة في تاريخ نثرنا العربي، وقد ذهبت أتتبع هذه الموجات في أهم الأقاليم العربية، وأقصد الأندلس ومصر فوجدتهما تعيشان على تقليد المشرق، دون أن تحاول إحداهما أن تحدث توجيهًا جديدًا، فقد كان التقليد يعم الأقاليم المختلفة، وهو تقليد قام على محاكاة النماذج المشرقية في صور من الاضطراب والاختلاط، إذ ترى الكتاب يجمعون في نماذجهم بين صور المذاهب المختلفة، وقلما وجدنا من يعيش في مذهب واحد. وليس معنى ذلك أن مصر، والأندلس لم تعبرا عن شخيتهما في أدبهما، بل لقد عبرتا عنها من حين إلي حين، ولكن في شكل شاحب ضئيل.