رأينا النثر العربي في العصر الجاهلي محدود الموضوعات، فهو لا يتجاوز الخطابة والأمثال وسجع الكهان، وقد وفر له أصحابه حينئذ ضروبًا من الجهد الفني، اصطلحنا على تسميتها باسم الصنعة، ولما خرجنا من الجاهلية إلى الإسلام، وجدنا سجع الكهان يختفي أو يكاد، بينما تتسع الخطابة، وتتنوع تحت تأثير الحوادث الدينية والسياسية، وقد أخذ يظهر بجانب الخطابة نوع جديد لم يكن العرب يعهدونه في العصر الجاهلي، وهو الكتابة الفنية، وتتبعنا نشأة هذا النوع، ووضحنا كيف أن الحياة العربية نفسها، وما أحدث الإسلام فيها من انقلاب هي التي هيأت لظهوره وتطوره، وبينا كيف أن العناصر الأجنبية، أخذت تؤثر فيه، وما زال ينمو ويرقى، حتى تمت له صورته النهائية في دواوين هشام بن عبد الملك، تلك الصورة التي عبر عنها -فيما بعد- عبد الحمد الكتاب أجمل تعبير.
ولما انتقلنا إلى العصر العباسي، وجدنا طائفة من الأدباء تعنى بالكتابة الطويلة، أو بعبارة أخرى بالكتب، وبدأت هذه العناية أولًا عن طريق الترجمة على نحو ما كان من ابن المقفع، وترجمته لبعض الكتب الفارسية، ثم أخذ الأدباء بعده يحدثون ما يشبه هذه الكتب، فظهرت الرسائل الطويلة عند سهل بن هارون والجاحظ، ولاحظنا أن هؤلاء الأدباء أصحاب الكتابات الطويلة، كان شأنهم شأن كتاب الدواوين في العصر الأموي، فهل يخضعون في نماذجهم لطاقة محدودة من الفن، هي طاقة الصنعة، والتكلف المحدود.
ونحن لا نترك هذه الطائفة في العصر العباسي إلى كتاب الدواوين، حتى