الحكيم، وقد أصبحت هذه الأشياء تلصق إلصاقًا وتلفق تلفيقًا، فليس هناك كاتب ممتاز لهذا العصر، إلا وهو يسعى إلى جلب هذه الفنون في نثره يقتسرها اقتسارًا، وقد يعتسفها اعتسافًا، وانظر كيف يجتلب محيي الدين التورية اجتلابًا في أثناء عهد المنصور قلاوون لابنه الملك الأشرف خليل، إذ يقول1: "كم جلا بهي جبينه من بهيم، وكم غدا الملك بحسن روائه ويمن آرائه يهيم، وكم أبرأ مورده العذب هيم عطاش، ولا ينكر الخليل إذا قيل عنه إبراهيم".
فقد ورى في إبراهيم، وأهل لتوريته بذكر الخليل، وهو لا يريد إبراهيم حقًا إنما يريد أنه "إبراهيم" فسهل الهمزة لتتم له التورية، ومن يرجع إلى رسائله المنثورة في صبح الأعشى، يجد كثيرًا من تورياته، فمن ذلك قوله في كتاب يصف به فتوح قلاوون في الشام2:
كم شكت منه حماة تنبى بنكرها عن قلة الإنصاف، وكم خافته معرة، وما من معرة خاف، ما زالت أيدي الممالك تمتد إلى الله بالدعاء، تشكو من جور جواره تلك الحصون والصياصي، وتبكي بمد مع نهرها من تأثير آثاره مع عصيانها، وناهيك بمدمع العاصي".
فقد ورى في كلمة معرة، كما ورى في كلمة العاصي، إذ يريد بها النهر المعروف في الشام لا الصفة، ومثل ذلك قوله في كتاب لأحد ملوك الفرنج: "وكيف فارقنا بلادك، وما بقيت فيها ماشية إلا وهي لدينا ماشية، ولا جارية إلا وهي في ملكنا جارية"3، فقد ورى تورية واضحة في ماشية وجارية، ومن ذلك أنه استهدف للقب قلاوون، وهو المنصور ولقب الخليفة العباسي في عهده، وهو الحاكم فقال في كتاب له: "وكيف لا والمنصور هو الحاكم"4، ومن ذلك قوله في نسخة توقيع برياسة اليهود5: