الخامس، وكل ما يمكن أن يضاف إلى القاضي الفاضل، أنه ربما كان من أوائل من نقلوه من الشعر إلى النثر، ومهما يكن فقد كان القاضي الفاضل، يعنى بأن تضم كتبه عناصر مذهب التصنع، وخاصة عنصر الجناس والتشخيص، وتضمين الشعر ثم عنصر الاقتباس من آي القرآن الكريم، على نحو ما نجد في القطعة السابقة، إذ نظم في عبارته قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} ، وكذلك قال: "وبدل الله مكان السيئة الحسنة" وقال: "من أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة"، وفي هاتين العبارتين ألفاظ من القرآن الكريم. ومع ذلك فعناصره الفنية التي يستخدمها لم نتبينها كلها حتى الآن، فهناك عنصر مهم كان يستخدمه في كتابته، وهو عنصر التصنع لمصطلحات العلوم، واستمر في الرسالة الآنفة فستراه يقول:
"كان يبدل المذابح منائر والكنائس مساجد، ويبوئ بعد أهل الصلبان أهل القرآن للذب عن دين الله مقاعد، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلق النصر منه، ومن عساكره بجار ومجرور، وأن ظفر بكل سور ما كان يخاف زلزاله، وزياله إلى يوم النفخ في الصور".
ولا شك أن القارئ قد لاحظ ما نريد أن نشير إليه، وهو أن القاضي الفاضل تصنع هنا لذكر الجار والمجرور، وراعى النظير، فذكر كلمة "تعلق" وكل ذلك ليستتم ما يدل به على براعته في فنه، وهو حقًا لم يكن يكثير من التصنع لمصطلحات العلوم، ولكنه يظهر على كل حال في رسائله، واستمع إليه يقول من رسائله أخرى1:
"سلام الله الأطيب، وبركاته التي يستدرها الحضر والغيب، وزكواته التي ترفع أولياءه إلى الدرج، ونعمه التي لم تجعل على أهل طاعته في الدين من حرج، على مولانا سيد الخلق، وساد الخرق، ومسدد أهل الحق، وواحد الدهر الذي لا يثنى، وإليه القلوب تشنى، ولا يقبل الله جميعًا لا يكون لولاته