أننا نحس في كل ذلك ذوق أصحاب التصنع، إذ نراه يحاول أن يمرن أسلوبه على أن يحمل أوسع ما يمكن، من جناسات منقوصة، وغير منقوصة، واستمر في الرسالة، فستراه يقول عن صلاح الدين، وفتحه لبيت المقدس إنه:

"فاز من بين المقدس بذكر لا يزال الليل به سميرًا، والنهار به بصيرًا والشرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدي نورًا من ذاته هتف به الغرب بأن واره؛ فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكر لا تواريه أوراق الصحف، وكتاب الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شفقًا، وطارت فرقه فرقًا....

وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة، ونام جفن سيفه، وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأضحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المعبود الواحد، وكان عندهم الثالث، فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الفكر مهتومة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة".

وواضح أن سمات القاضي الفاضل، التي رأيناها منذ مطلع الرسالة لا تزال هي نفسها، فهو يعمم في جميع جوانبها ميله الشديد إلى التشخيص، كما يعمم ميله إلى ألوان البديع وخاصة لون الجناس، وكان ما يزال يستخدمه في جميع أشكاله من تامة وغير تامة، واستهدفت في أثناء ذلك؛ لأن يوري بين كلمة "بأنواره" وكلمة "بأن واره"، وقاده استهدافه لهذا النوع من الجناس إلى أن يستخدم التورية كثيرًا في نثره، وقد نسب القدماء إليه استخدامه هذا اللون لأول مرة في تاريخ أدب مصر الإسلامية1، ولكن من يقرأ شعر الشريف العقيلي في المغرب2، والخريدة3 يجد أن هذا اللون عرف في مصر منذ أوائل القرن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015