العماد لقي القاضي الفاضل يومًا وهو راكب على فرس، فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له القاضي الفاضل توًّا: دام علا العماد1، وأكبر الظن أن القارئ لا يزال يذكر ما مر بنا عند الحريري، مما كان يسميه "ما لا يستحيل بالانعكاس"، وكان الحريري يأتي به ليدل على مقدرته البالغة، وها نحن الآن في مصر بعد الحريري بنحو نصف قرن، نقرأ في آثار مشاهير الكتاب، فإذا هم يتجهون نفس الوجهة من الإطراف بغرائب العبارات، وهو إطراف لا يأتي من المعنى، وإنما يأتي من الشكل الخارجي، إذ يستطيع الأديب أن يستخدم عقدة من عقد التعبير، وهو غالبًا لا يأتي بعقد جديدة، وإنما يستخدم بعض العقد السابقة، فإذا القاضي والعماد جميعًا يعمدان في جملتين إلى استخدام "ما لا يستحيل بالانكاس"، فيهما حتى يدلًا على مقدرتهما وبراعتهما، وأنهما يستطيعان أن يأتيا بعبارات تقرأ طردًا وعكسًا، والغريب أن العماد مع أنه جاء من المشرق موطن التصنع، لم يستطع أن يتفوق على القاضي الفاضل، الذي تخرج في ديوان الفاطميين، وهذا نفسه دليل واضح على أن هذا الديوان ارتقت فيه الكتابة في العصر المتأخر رقيًا، لا يقل عن رقيها في المشرق.
ومهما يكن فإن القاضي الفاضل كان أستاذ عصره غير منازع، وشهد له ابن خلكان بذلك، إذ وازن بين كتبه في فتح بيت المقدس وما كتبه العماد وغيره، فقال: "إنه رئيس هذا الفن، وإذا شرع في شيء من هذا الباب، لا يستطيع أحد أن يجاريه ولا يباريه"2، ومن أجل ذلك سنقف عنده لنتبين نهضة الكتابة الفنية في العصر الأيوبي، وما امتازت به من خصائص أدبية، وهي خصائص استمرت تخضع لها الأجيال التالية خضوعًا شديدًا.
القاضي الفاضل:
هو، عبد الرحيم البيساني، ولد في عسقلان، فهو عسقلاني الأصل كابن الشخباء؛ وولي أبوه قضاه بيسان من قبل الفاطميين، فنسب هو إليها، ولما