مزدحمًا وملتزمًا، حتى يكون في العلا، بمنزلة حرف الاستعلا، وهو من حروف اللين في حصون، وما جاورها من الإمالة مصون، ولا زال عدوه كالألف، حالها، يختلف، تسقط في صلة الكلام، ولا سيما مع اللام، فإنه -أدام الله علوه- أحسن إلى ابتداء، ونشر علي من فضله رداء أراد أن يخفى، وكيف يخفى؟ لأن من شرف الإحسان، سقوط ذكره عن اللسان، كالمفعول رفع رفع الفاعل والكامل، لما حذف من الكلام ذكر الفاعل....".

وواضح ما في هذه القطعة من رسالة ابن قم من تعمل لإدخال النحو ومصطلحاته في أساليب الرسائل وألفاظها، فإذا هي تغدو، وكأنها متن من متون النحو لا نموذج من نماذج الفن، وإذا كان ابن قم يتعمل هذا التعمل في كتابته باليمن، فإن كتاب الأقاليم الأخري أيضًا، كانوا يأتون بمثل هذه الصعوبات، والعقد في كتابتهم، وقد يتخففون من مصطلحات العلوم، ولكنهم يفرطون في استحدام الوسائل الأخرى من الأمثال واللفظ الغريب، أو من تعقيد السجع والجناس، وسنتعقب في القسم التالي من هذا الكتاب المذاهب الفنية في الأندلس، ومصر، وسيرى القارئ أنه منذ القرن الخامس الهجري، أخذ الكتاب في هذين الإقليمين يصدرون في أعمالهم عن هذا الذوق العام، الذي نشره المشرق ذوق التصنع والتعقيد، إذا اندفع الكتاب في هذه الموجة من القرن الخامس للهجرة إلى العصر الحديث، وكأنما أجدب معين الفكر العربي، أو قل: لقد أجدب معين الحضارة العربية، فلم يعد يظهر من جديد إلا هذه الضروب من التعقيد والتصعيب، وإن الإ نسان ليشعر كأن الحياة العربية، قد أصيبت بعطل شديد، وإنه عطل يتسع فإذا مصانع النثر لا تستطيع أن تخرد ضربًا جديدًا أو مذهبا حديثًا، إلا هذه الطرق الملتوية المحملة بالتصنع لمصطلحات العلوم، والتكلف لأشياء شاذة كالأمثال، والإشارات التاريخية والأدبية، وهذا كله كان يأتي تابعًا لأسجاع معقدة، سيطر عليها الجناس المعكوس، وما يطوى فيه من تصعيب في طرق الأداء، وقد جمدت العصور التالية عند هذا الأسلوب، ولم تستطع أن تنحرف عنه إلى منهج جديد، أو أسلوب حديث.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015