في مقاماته، فهو يعترف منذ السطور الأولى فيها بأنه سيوشحها بالآيات القرآنية، وكان هذا التوشيح إحدى سمات أصحاب التصنع، وهو لا شك مقصد جميل في ذاته، ولكنه يقترن بأشياء أخرى تتصل بتصعيب الأداء وتعقيده، ولعل أول ما يلاحظ من ذلك هو الكنايات، التي يشير إليها الحريري، وإنها لتحيل كثيرًا من جوانب مقاماته إلى ما يشبه الألغاز، وارجع إلى المقامة التاسعة عشرة الملقبة بالمقامة النصيبية تجده يكثر من الكنايات على النحو مبعد في الإغراب، إذ يكنى عن الموت بأبي يحيى، وعن الجوع بأبي عمرة، وعن الخوان بأبي جامع، وعن الخبز الحواري بأبي نعيم، وعن الجدي بأبي حبيب، وعن الخل بأبي ثقيف، وعن الملح بأبي عون، وعن البقل بأبي جميل، وعن السكباج بأم القرى، وعن الهريسة بأم جابر، وعن الفالوذج بأبي العلاء، وعن الطست والإبريق بالمرجفين، وهو حقًا لا يكثر في مقاماته الأخرى من هذه الكنايات، ولكنها على كل حال موجودة في جوانب كثيرة منها، وهو كما يوشح مقاماته بهذه الكنايات، كي يعقد أسلوبها، نراه يرصعها -كما يقول في المقدمة- بالأمثال على نحو ما نجد في المقامة الوبرية، وقد قال: إنه وضع في المقامة الحجرية بضعة عشر مثلًا1، وكما عني بالأمثال عني بالحكم على نحو ما نجد في المقامة القهقرية، أما الأحاجي النحوية، فقد خصص لها المقامة المسماة بالمقامة النحوية، إذ عرض فيها طائفة من أحاجي النحو ومشاكله، وكما عني بأن يخصص للنحو مقامة، كذلك عني بأن يخصص للفقه مقامة سماها المقامة الطيبية ذكره فيها مائة مسألة فقهية.
أرأيت كيف تطور الفن في النثر العربي، وأنه أصبح يعتمد على أشياء لم نكن نألفها عند التاب قديمًا؟ فإذا الحريري يسلكط في مقاماته مسائل النحو والفقه، كما يسلك فيها الكنايات والأمثال، وكل ذلك ليقدم لمعاصريه طرائفه الجديدة، وهو لا يقف عند ذلك، إذ نراه يعمد -كما يقول في مقدمته- إلى