عليه، فاستدل على مسجده الذي يقرأ فيه، فلما أراد الدخول، رأى شخصًا دميم الخلقة، فاحتقره، وقال: لعله ليس هو هذا، فرجع، ثم قال في نفسه: لعله يكون هذا ثم استبعد أن يكون هو، والشيخ يلحظه، فلما تكرر هذا منه، تفرس الشيخ فيه ذلك، فلما كان في المرة الأخيرة، قال له: ارحل، فأنا من تطلب أكبر من قرد محنك"1، وربما كان هذا القبح هو الذي ولد فيه ميله إلى الدعابة في أعماله، وآثاره.
وكان مما خفف قبح الحريرة، أنه كان ذكيًا ذكاء شديدًا يقول ابن الجوزي: "إنه فاق أهل زمانه بالذكاء والفطنة"2، ويقول العماد الأصبهاني: "طلعت ذكاء ذكائه في المغرب والمشرق، وامتلأ ببضائع فوائده، ونواصع فرائده حقائب المشئم والمعرق"3، ويقول ياقوت: "كان غاية في الذكاء والفطنة"4، واستغل هذا الذكاء في جانبين، أما الجانب الأول، فالأدب شعره ونثره، وقد ترك في هذا الجانب مجموعة من الشعر، كما ترك مجموعة من الرسائل، وأيضًا فإنه ترك أهم مجوعة ألفت في المقامات، وأما الجانب الثاني فهو جانب التأليف في النحو، إذ نراه يترك -كما يقول ياقوت- كتاب "ملحة الإعراب"، وهي قصيدة في النحو، كما يترك كتاب شرح ملحة الإعراب، وأيضًا فله كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص"، وهو معروف.
على أن الحريري إنما اشتهر بجانبه الأول، إذ يعتبر أهم كاتب ظهر في المشرق بعد أبي العلاء، وقد نال شهرة مدوية في عصره وبعد عصره، لما كان يقوم به من عناية بآثاره عناية تحيلها إلى ضروب خالصة من الزخرف، والوشي الأنيق حتي ليقول العماد الأصبهاني: إن "وشي بلاغة الحريري ذهبي الطراز، سحباني الإعجاز قسي الإسهاب والإيجاز، ومتى قد رقس على ترصيع كلمه، وتصريع حكمه، حريري الوشي، عراقي الوشم، لؤلؤي النظم، كلامه يتيمة