يشير إلى قصائد الكميت وما اشتهرت به من طول، كما يشير إلى قصيدين لعبيد وعدي عرفنا باضطراب الوزن، وهما على الترتيب "أقفر من أهله ملحوب" و"قد حان أن تصحو لو تقصر"، كما يشير إلى الأوزان الثلاثة التي استحدثها الشعراء، ولم يستخدمها القدماء وهي المجتث والمقتضب والمضارع، أما الدائرة التي يشير إليها، فهي إحدى دوائر الخليل واضع علم العروض، إذ جعل كل مجموعة من أوزان الشعر في دائرة، وأفراد المتقارب بدائرة على حدة. ولكن أين نحن الآن؟ لقد فارق النثر طبيعته، وأصبحنا نقرأ في الصحيفة منه بل في الفقرة، فإذا بنا نضطر إلى أن نعرض لأشياء لا تتصل بدوائر الفن من حيث هو، وإنما تتصل بعلوم اللغة، وهذا هو معنى ما نذهب إليه من أن أبا العلاء عقد لغته في نثره تعقيدًا شديدًا، فقد أخذ النثر يستحيل عنده إلى هذه الصورة المعقدة الملتوية، فإذا صاحبه يلجأ إلى مصطلحات من العلوم يسلكها في عمله، وإنا لنعجب الآن كيف غلا أبو العلاء في تعقيد فنه كل هذا الغلو، ولكن هذا العجب يزيله من نفوسنا، أن نعرف أن الفن في النثر العربي تطور أخيرًا إلى هذه الصور من التصعيب في الأداء، وكأنما جفت المنابع التي تؤهل له صورة صحيحة من الزخرف، إذ انتقل إلى هذه الصورة المعقدة من استخدام مصطلحات العلوم، فإن تركها أبو العلاء فإلى الألفاظ المهجورة، والأمثال والإشارات المرموزة.
ويستخدم أبو العلاء الجناس، ولكنا نحس عنده أنه فارق صورته القديمة إلى صورة هندسية جديدة، إذ أصبح عقدًا خالصة، أو ما يشبه العقد الخالصة، لا لسبب إلا؛ لأنه كان يطلبه دائمًا في اللفظ الغريب المتعمق في الإغراب، كأنما الإغراب شيء يقصد لذاته، واسمتع إلى هذه الفقرة القصيرة1.
"بل يا جفن، وابل يا جسم، وأبلي يا نفس، يبل من المرض الدين، ليس يبل عند الله أبل، فاطو صديقك على بلته ولا تثقن بلابس حبلات".
هل يقع في ذهنك أنك تقرأ الآن نثرًا كالنثر المألوف لك؟ طبعًا لا، فإن