هذا نثر جديد من صنع أبي العلاء، وإن الإنسان ليحس إزاءه، كأنه يقرأ مادة من مواد لسان العرب، قد مثل لها ابن منظور بأمثلة مختلفة باختلاف استخدام الكلمة، ولكن فكر قليلًا فسترى أن أبا العلاء لم يعمد إلى هذا اللعب إلا؛ لأنه يريد أن يعرض عليك أوسع صور للجناس في هذه العبارات، وإنه ليذهب بعيدًا في الإتيان بجناساته، إذ يبدأ بكلمة "بل"، وهي من وبل يبل أي يسقط ويهطل، ثم يثني بكلمة "ابل"، وهي بلي يبلى، ويثلث بكلمة "وأبلى"، وهي من أبل الوحش إذ اجتزأ بالكلأ عن الماء يريد: "امتنعي عن المحارم أيتها النفس، ويستمر أبو العلاء، فيأتي بكلمة "يبل"، وهي بمعنى يبرأ ويصح، ثم يأتي بكلمة "يبل"، وهي يظفر، أما الأبل فهو الخبيث، وأما قوله:
"اطو صديقك على بلته"، فمثل يضرب في السقاء يطوى وهو مبتل، فإن بلله أبقى له، وقد ختم الفقرة بكلمة "حبلات"، وهي ضرب من الحلي، وواضح ما في ذلك كله من العنت في الإغراب، والتعقيد الشديد.
والحق أن أبا العلاء يعتبر في نثره مرحلة قائمة بنفسها في تاريخ لغتنا العربية، فقد أخذ هذه اللغة من أيدي سابقيه، فلم يقف بها عند الصورة التي تركوها، بل خرج بها إلى مذهب التصنع الجديد، ولكنه حين خرج إلى هذا المذهب أوغل فيه إيغالًا لم يوغله أحد من قبله، بحيث يمكن أن يقال: إن المذهب ابتدأ به وانتهى بها أيضًا، فقد عقد لغة نثره تعقيدًا لم يقع في وهم أحد لا من سابقيه، ولا من معاصريه، حتى لتتحول جوانب من أعماله إلى ما يشبه الألغاز والأحاجي، وما من شك في أن معرفته الواسعة باللغة، وألفاظها المستعملة والمهجورة ساعدته على كل ما يطمح إليه في هذا الصدد، وإنها لمساعدة تخرج بجوانب كثيرة من آثاره إلى ما يشبه المعاجم، فهي متون لغوية قبل أن تكون متونًا أدبية أريد بها إلى اللغة قبل أن يراد بها إلى الفن، وذهب أبو العلاء يعقد هذه المتون، ويصعبها بلك ما يستطيع من أدوات ووسائل، وهل هناك أداة أو وسيلة لا يحسنها أبو العلاء؟ إن اللغة مسخرة له، وهذه ألفاظها المهجورة يستطيع أن يتخذ منها ما يريد من مواد لبناء نماذجه، وإنه ليغرب في هذه المواد ما شاء له هواه حتى يقع