وكان ابن العميد يسجع في كتابته، ولكن ليس هذا ما يلفتنا عنده، إنما الذي يلفتنا حقًا هو أن مذهب التصنيع تماثل على يديه في الصورة التي كانت تنتظره منذ القرن الثاني، ونقصد صورة السجع من جهة، والاحتكام إلى البديع فيما ينشئ الكاتب من جهة أخرى، ومن أجل ذلك إذا قلنا: إن ابن العميد هو أستاذ مذهب التصنيع بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة لم نبعد؛ لأنه أول كاتب -فيما نعرف- احتكم إلى السجع في كتابته، كما احتكم إلى البديع من جناس وطباق وتصوير، وقد هيأه لذلك أنه كان ذا عين تصويريه، بل لقد كان ذا شغف بفن التصوير نفسه، يقول مسكويه: "لقد رأيته يتناول في مجلسه الذي يخلو فيه بثقاته، وأهل أنسته التفاحة وما يجري مجراها، فيعبث بها ساعة ثم يدحرجها، وعليها صورة وجه، وقد خطها بظفره، لو تعمد لها غيره بالآلات المعدة، وفي الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها، ولا تأتي له مثلها"، ولا شك في أن هذه النزعة التصويرية فيها كان لها أثر مهم في نثره، إذ جعلته نثرًا مصورًا يهتم صاحبه يصنع الصور والرسوم في كتاباته، كما جعلته يهتم بألوان البديع الأخرى من طباق وجناس وغيرهما، وكأنه كان يحس بأن هذه الألوان الرسام، وانظر إليه يكتب إلى ابن بلكا عند استعصائه على ركن الدولة، فيستهل رسالته على هذا النمط1:

"كتابي، وأنا متأرجح بين طمع فيك، ويأس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك، فإنك تدل بسابق حرمة، وتمت بسالف خدمة، أيسرهما يوجب حقًا ورعاية، ويقتضي محافظة وعناية، ثم تشفعهما بحديث غلول2 وخيانة، وتتبعهما بآنف3 خلاف، ومعصية وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويمحق كل ما يرعى لك. لا جرم أني وقفت بين ميل إليك، وميل عليك أقدم رجلًا لصدك، وأؤخر أخرى عن قصدك، وأبسط يدًا لاصطلامك4 واجتياجك، وأثنى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015