ثانية لاستبقائك واصطلاحك، وأتوقف عن امتثال بعض المأمور فيك، ضنًا بالنعمة عندك ومنافسة في الصنيعة لديك، وتأميلًا لفيئتك1 وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك، فقد يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو، وكل ضيقة فإلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء، وكما أنك أتيت من إساءتك، لما لم تحسبه أولياؤك فلا بدع أن تأتي من إحسانك بما لا ترتقبه أعداؤك، وكما استمرت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت، فلا عجب أن تنتبه انتباهة تبصر فيها قبح ما صنعت، وسوء ما آثرت، وسأقيم على رسمي في الإبقاء، والمماطلة ما صلح، وعلى الاستيناء2 والمطاولة ما أمكن، طمعًا في إنابتك وتحكيمًا لحسن الظن بك، فلست أعدم فيما أظاهره من إعذار، وأرادفه من إنذار، احتجاجًا عليك، واستدراجًا لك، فإن يشأ الله يرشدك، ويأخذ بك إلى حظك ويسد دك".

والرسالة كلها تمضي على هذا النحو من السجع والعناية بالبديع، فكلها تحف من السجع وطرف من الجناس والطباق والتصوير، فهي وشي خالص، هي بدجيع وتطريز وترصيع، إذ ما يزال ابن العميد يدمدج وشي السجع في وشي البديع من التوصير، والطباق والجناس، فإذا أساليبه وكأنها ثروة زخرفية هائلة، وهل هناك عبارة في هذه القطعة لم تحل بلون من ألوان البديع، وهو يضع هذه الألوان الرائعة على ألفاظه المسجعة، فإذا هي تختال في هذه المقدرة البديعة من الزخرف والتصنيع، وأكبر الظن أن ابن العميد قد تأثر في صناعته بصناعة السجاد في إقليمه، فهو يعاني في كل لفظة ما يعانيه صانع السجاد في كل خيط، ثم هو بعد ذلك يعني بالوشي الذي تعبر عنه ألفاظه، كما يعني صانع السجاد بالوشي الذي تعبر عنه خيوطه، وعلى هذا النمط تحولت صناعة الكتابة عند ابن العميد إلى تطريز خالص، وهو يختال على هذا التطريز

طور بواسطة نورين ميديا © 2015