وإذا فنحن لا نبعد إذا قلنا: إن عنصر السجع، وهو العنصر الأول في مذهب التصنيع أخذ يظهر منذ القرن الثاني الهجري، وإذا تركنا هذا القرن إلى القرن الثالث، وجدنا هذا العنصر يظهر في الرسائل السياسية، وعند كتابها، ولعل أقدم نموذج يصور ذلك وصية1 طاهر بن الحسين مؤسس الدولة الطاهرية، المتوفى سنة 207 للهجرة لابنه عبد الله، عندما عين واليًا على ديار ربيعة في سنة 206هـ. ويستمر السجع عند الكتاب، وعلى رأسهم عمرو بن مسعدة الصولي، الذي كان يلي شئون الدواوين لعهد المأمون، وكان جده صول من ملوك جرجان، وهو ترك2، وقد نشأ عمرو في دواوين البرامكة، وتربى على أساليبهم، ولذلك لم يكن غريبًا أن نجده يحتذي أحيانًا على أمثلتهم من السجع، والتنميق في عباراته، ولعله من أجل ذاك كان المأمون يعجب برسالاته3، وانظر إليه يكتب إلى الحسن بن سهل4:
"أما بعد فإنك ممن إذا غرس سقى، وإذا أسس بنى، ليستتم تشييد أسه، ويجتني ثمار غرسه، وبناؤك عندي قد شارف الدروس، وغرسك مشف على اليبوس، فتدارك بناء ما أسست، وسقى ما غرست إن شاء الله".
وهذه الرسالة القصيرة تدلنا على ضميمة أخرى، أخذت تضم إلى سجع أصحاب الدواوين في القرن الثالث، ونقصد ما يتشح به سجعهم من صور بيانيه، وضميمة ثانية تلاحظ عند عمرو، وهي سعة الحيلة في كتاباته مع الإيجاز الشديد، روى الرواة أن المأمون أمره أن يكتب لشخص كتابًا إلى بعض العمال بالوصيلة عليه، والاعتناء بأمره في سطر واحد، فكتب إليه5:
"كتابي إليك كتاب واثق، بمن كتب إليه، معني بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة، والعناية حامله، والسلام":
وما من ريب في أن هذا الكتاب -على قصره- يصور المهارة العقلية