ليقفوا منها على أساليب البلاغة، وفنونها حتى قيل: إنها كانت تباع كل توقيع بدينار"1، ووصفه ثمامة بن أشرس فقال: "كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدوء والتمهل، والجزالة والحلاوة، وإفهامًا يغنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطق يستغنى بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة، كما استغنى عن الإعادة"2، وفيه تقول عنان جارية الناطقي3:
بديهته وفكرته سواء ... إذا التبست على الناس الأمور
وقد كان جعفر يبالغ في تنميق عباراته، وهو تنميق كان يستمده من حياته التي بنيت بناء من التنميق، والتصنيع والزينة، حتى قالوا: إنه كان يتخذ في عصره مثلًا للتصنيع، والزخرف في ثيابه4، فكان طبيعيًا أن يسقط ذلك إلى أدبه وبيانه. ولعل أهم ما يلاحظ من ذلك أنه كان يلتزم السجع في كتبه وتوقيعاته، روى ابن خلكان أنه وقع إلى بعض عماله: "قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت"5. وأكبر الظن أن جعفرًا كان يبني عباراته على السجع، وهذا أول مظهر من مظاهر مذهب التصنيع، ويبدو أن هذا الاتجاه في صناعة النثر لم يقتصر حينئذ على جعفر البرمكي، ودواوينه بل أخذ ينتشر وخاصة عند طلاب الحاجات الذين يرفعون ظلاماتهم، أويقدمون توسلاتهم، فقد روى الجاحظ أن ابن سيابة الشاعر كتب إلى يحيى بن خالد البرمكي برسالة بليغة كان عامة أهل بغداد يحفظونها، وهي رسالة بنيت كلها على السجع6، ومر بنا في الفصل الثاني من الكتاب الأول أن كثيرًا من الوعاظ كانوا يستخدمون السجع في أواخر عصر بني أمية، وقد استمر ذلك في العصر العباسي الأول، وفي عيون الأخبار لابن قتيبة نماذج من ذلك في مقاماتهم بين أيدي الخلفاء7.