يتداخل التفكير العقلي، وما يشفع به من قدرة على البرهان، والاستدلال مع التفكير الفني، وما يشفع به من قدرة على تقطيع الصوت، وما ينطوي في هذا التقطيع من تكرار وترداد، وبذلك يلتئم هذا الفن الجاحظي الذي يشبع فيه جمال العقل ما يشيع فيه جمال الصوت، وارجع إلى هذه النقطة الجميلة، فإنك ترى الجاحظ يحسن التدليل على فكرته التي يذهب فيها إلى أن العالم يتألف من الخير والشر جميعًا، بحيث إذا سقط الشر منه سقط الحائط الذي يؤلفه، وكذلك الشأن إن سقط الخير، وإن الجاحظ ليجعل القضية قضية العقل، فإن تغيير الكون عما هو، يجعلنا نفقد آلة التفكير، ومتى فقدناها أصبحنا لا نستطيع التأمل في علم، ولا الشعور بشيء ملذ أو مؤلم، إذ نصير كالحيوان في الرتعة، بل لقد نتحول إلى الجماد في السخرة: "ومن هذا الذي يسره أن يكون الشمس والقمر والنار، والثلج أو برجا من البروج، أو قطعة من الغيم؟ " إن الكون يجب أن يستمر كما هو: خير ونفع، وشر وضر، وإن كل جزء من أجزاء الخير، ومثله كل جزء من أجزاء الشر، يجب أن يظل كما هو؛ لأن العالم يتألف من جميع هذه الأجزاء وما الجميع؟ "إنما هو واحد ضم إلى واحد، وواحد ضم إليهما؛ ولأن الكل أبعاض؛ ولأن كل جثة فمن أجزاء، فإذا جوزت رفع واحد والآخر مثله في الوزن، وله مثل علته وحظه ونصيبه؛ فقد جوزت رفع الجميع؛ لأنه ليس الأول بأحق من الثاني في الوقت الذي رجوت فيه إبطال الأول، والثاني كذلك، والثالث، والرابع حتى تأتي على الكل وتستفرغ الجميع"، فأي عقل هذا الذي يكتب بتلك المقدرة على توليد الأفكار من جهة، والإدلاء بكل ما يمكن من حجج، وبراهين من جهة أخرى؟ إنه عقل الجاحظ، وهو العقل الذي جعل ابن العميد -كما مر بنا- يقول: "إن كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا". فالعقل عند الجاحظ هو أساس صنعته الذي يستمد منه أدلته كما يستمد منه توليده للأفكار والمعاني، وأيضا فإنه يستمد منه قياسه ومقابلاته، وقد كان مشغوفا بالمقابلة في معانيه، وأفكاره شغفا شديدا، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما سخر العقل بجميع مقوماته للجاحظ، وهو يختار ما يشاء من هذه المقومات في رسائله وكتبه، ولعل ذلك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015