ما جعل المأمون يقول له، وقد قرأ كتبه في الإمامة: "قد كان بعض من نرتضي عقله، ونصدق خبره، خبرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة، وكثرة الفائدة، فقلت له: قد تربي الصفة على العيان، فلما رأيتها رأيت العيان قد أربى على الصفة، فلما فليتها أربى الفلي على العيان كما أربى العيان على الصفة"1، ونحن مهما وصفنا من عقل الجاحظ، وما يشفع به كتابته من تلاوينه وتحاسينه، فإن ذلك لن يكون شيئا بجانب ما يحسه القارئ له حين يتصفح أعماله، ويقف على مدى استعانته بالعقل في تأليفها وصوغها، والحق أن هذا عمل أوسع من أن نحيط به في صفحات معدودة، وغاية ما يمكننا هو أن نجمل هذا الصنيع في أن الجاحظ كان يدمج إدماجا بديعا بين التلوين الصوتي، والتلوين العقلي في آثاره، فإذا هي تصور طرافة التفكير في أعلى صورة، كما تصور طرافة الصوت، وما ينساق مع هذه الطرافة من تكرار، وترداد كان يستعين بهما دائما على تدبيج أساليبه وتحبيرها، وإنهما ليتجليان دائما في كل ما يملى، ويكتب كما يتجلى جمال التفكير، وجمال التعبير.