والبلادة، وإلى حال النجوم في السخرة، فإنها أنقض من حال البهائم في الرتعة، ومن هذا الذي يسره أن يكون الشمس والقمر والنار، والثلج، أو برجا من البروج، أو قطعة من الغيم، أو يكون المجرة بأسرها، أو مكيالا من الماء، أو مقدارا من الهواء.. وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة، ولذة السبع بلطع الدم وأكل اللحم، من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان القرع؟ وأين ذلك من سرور السؤدد، ومن عز الرياسة؟ ولو استوت الأمور بطل التمييز، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة.. ولو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور لبطل النظر وما يشحذ عليه، وما يدعو إليه، ولتعطلت الأروح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها، فسبحان من جعل منافعها نعمة، ومضارها ترجع إلى أعظم المنافع، وقسمها بين ملذ ومؤلم، وبين مؤنس وموحش، وبين صغير حقير، وجليل كبير، وبين عدو يرصدك، وبين عقل يحرسك، وبين سالم يمنعك، وبين معين يعضدك، وجعل في الجميع تمام المصلحة، وباجتماعها تتم النعمة، وفي بطلان واحد منها بطلان الجميع، قياسا قائما وبرهانا واضحا، فإن الجميع إنما هو واحد ضم إلى واحد، وواحد ضم إليهما؛ ولأن الكل أبعاض؛ ولأن كل جثة فمن أجزاء، فإذا جوزت رفع واحد والآخر مثله في الوزن، وله مثل علته وحظه ونصيبه، فقد جوزت رفع الجميع؛ لأنه ليس الأول بأحق من الثاني في الوقت الذي رجوت فيه إبطال الأول، والثاني كذلك والثالث والرابع حتى تأتي على الكل، وتستفرغ الجميع".
أرأيت إلى هذا الدفاع القوي عن ضرورة بقاء الشر في الكون؟ وإنه لدفاع يستمده الجاحظ من التفكير الدقيق في حقائق الكون، وهو تفكير يقوم على المنطق والاستدلال، والقياس كما يقوم على التأثر ببعض آراء المتكلمين الذين يرفضون الجبر، والتسخير في الحياة ويضعون مكانهما الاختيار، والتمكين، وهذا كله يبسط في ضروب من تلاوين الصوت وتحاسينه، وإنها لضروب تشيع في أسلوب منطقي منقطع القرين، ومن هذين المفتاحين؛ جمال الصوت وجمال المنطق، تسقط النغمات التي تميز الجاحظ في جميع فنه وصنعته، إذ ما يزال