فقد روى الرواة أنه اجتمع مع يوحنا بن ماسويه على مائدة بعض الوزراء، وكان في جملة ما قدم مضيرة عقب سمك، فامتنع يوحنا من الجمع بينهما، فقال له الجاحظ: "أيها الشيخ لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن أو مضادا له، فإن كان أحدهما ضد الآخر، فهو دواء له، وإن كانا من طبع واحد، فلنحسب أنا قد أكلنا من أحدهما إلى أن اكتفينا"، فقال يوحنا: والله ما لي خبرة بالكلام، ولكن كل يا أبا عثمان، وانظر ما يكون في غد، فأكل الجاحظ انتصارا لدعواه، ففلج في ليلته، فقال: هذه والله نتيجة القياس المحال"1، وإن هذه القصة لترمز إلى عنايته بالمنطق في كل ما يتصل به من قول وفعل، ونحن لا نبعد إذا قلنا: إنه أهم كاتب في العصر العباسي الأول حكم المنطق في كل ما يصنع، فقد كان يعتم عليه اعتمادا بالغا في جميع كتاباته، واقرأ له هذه القطعة التي يتحدث فيها عن الخير والشر، وأنهما ضروريان لصلاح الكون2:

"اعلم أن المصلحة في أمر ابتداء الدنيا إلى القضاء مدتها امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع، والمكروه بالسار، والضعة بالرفعة، والكثرة بالقلة، ولو كان الشر صرفا هلك الخلق، أو كان الخير محضا سقطت المحنة، وتقطعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب تبين، ولا دفع مضرة، ولا اجتلاب منفعة، ولا صبر على مكروه، ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل في بيان، ولا تنافس في درجة، وبطلت فرحة الظفر وعز الغلبة، ولم يكن على ظهرها محق يجد عز الحق، ومبطل يجد ذلة الباطل، وموقن يجد برد اليقين، وشاك يجد نقص الحيرة وكرب الوجوم، ولم تكن للنفوس آمال، ولم تتشعبها الأطماع، ومن لم يعرف كيف الطمع لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس، جهل الأمن، وعادت الحال من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياء والأولياء حال السبع والبهيمة، وإلى حال الغباوة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015