على الديك أو العكس تر حوارها يمتد في عشرات الصحف، وقد استعان كل منهما بما يمكن من براهين حسية وعقلية على التدليل لرأيه، وإن الإنسان ليخيل إليه كأن كلا منهما، قد استعار شخصية الحيوان الذي يدفع عنه، وهو لذلك يتسلح لخصمه بكل ما يستطيع العقل أن يسعفه به من براهين صحيحة، وغير صحيحة في افتنان، وبراعة يدلان على مبلغ ما فتقت الفلسفة من عقول المتكلمين، وألسنتهم.
وقد تربى الجاحظ في هذه البيئة على يد أستاذه النظام، فأخرجه لسنًا جدلًا يعرف كيف يحاور ويداور، وكيف يستعين بالمنطق الصحيح، وكيف يستعين بالمنطق السقيم ليدعم رأيه، وينصر فكرته، وقد تشبث بطريقة الحوار والجدل وما يتعلق بهما من مغالطة وسفسطة، فتكلم كثيرا عن محاسن الأشياء، ثم عاد فتكلم عن مساويها، ولعل خير ما يفسر ذلك كتاب المحاسن، والأضداد الذي ينسب إليه، وقد لا يكون هذا الكتاب له، ولكن من يقرأ فيه يؤمن بأنه إما أن يكون من صنع الجاحظ نفسه، أو من صنع شخص استمده من مغالطات الجاحظ في كتبه.
والجاحظ كما يعتمد على المغالطة أحيانا، نراه أيضا يعتمد على صحة الأدلة وصدق المقدمات أحيانا أخرى، بل إن هذا هو الغالب عليه، وقد تلوم في حيوانه من يعنون بصحة مقدماتهم1، وعاب النظام كما مر بنا بأنه لا يصحح الأصل الذي يبني عليه قياسه، وقد جعله ذلك يمتاز من كتاب عصره باستخدام المنطق استخداما واسعا في تضاعيف أسلوبه، فهو دائما يعرض أفكاره في صورة حجاج يقوم على براهين، وأدلة ومقدمات وأقيسة، ولا غرابة، فقد كان يعتد بذلك كلون عباسي بديع ينبغي أن يدخل في دوائر النثر، وأن تحلى نماذجه به حتى تنبسط الكتابة، ويتسع التعبير فيها اتساعا يرفده العقل الدقيق، والمنطق الوثيق، وإن الجاحظ ليتشبث بذلك في أبلغ صورة يمكن العقل أن يتصور بها عباسيا في القرنين الثاني، والثالث يريد أن يسيطر المنطق على كل ما يكتب، بل أيضا على كل ما يعمل