بطابع كتب الإملاءات من حيث الخلل، والاستطراد والإيجاز في بعض الأشياء المهمة، والإطناب والتفصيل في بعض الأشياء التافهة، ومهما يكن فقد كان الجاحظ يعني بأساليبه عناية توفر لها ضروبا من التقطيع الصوتي، وقد ذهب يستعين في ذلك بتكراره، وترداده حتى تستوفي أساليبه كل ما يمكن من هذا التلوين الصوتي، الذي يكسب تعبيره جمالًا خاصًّا يتفوق به على جميع الكتاب في عصره.
التلوين العقل:
ربما كان هذا العنصر أهم العناصر الأربعة التي تكون فن الجاحظ وصنعته، إذ كان يشفع كتابته دائما بضروب من التحاسين العقلية، وهي ليست تحاسين فنية في أصلها، إنما هي تحاسين منطقية وفلسفية، واستطاع الجاحظ في رسائله، وكتب أن يحولها إلى تحاسين فنية خالصة أو تكاد، إذ كان يدخلها في جميع أوعيته الصوتية، وطبيعي أن تظهر هذه التحاسين عند الجاحظ؛ لأنه كان متكلما، ووصف هو نفسه المتكلم لعصره فقال كما مر بنا في غير هذا الموضع: "لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنًا في الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة"، ولعل من الطريف أنه أضاف الفلسفة في حيوانه إلى بعض المتكلمين، فقال: "ورأيت ناسا من فلاسفة المتكلمين"1، وقد قال في الحيوان صراحة: إن هذا الكتاب "أخذ من طرف الفلسفة2، وإضافة الطرف إلى الفلسفة إحساس من الجاحظ بما تدخله فلسفة العقل على تعبير صاحبه من تحاسين وتلاوين، ولعل ذلك ما جعله يعد المذهب الكلامي من ألوان البديع3، وهو لا يريد بهذا المذهب إلا ما أدخله المتكلمون من طرق جدل، وحوار، وسفسطة وأدلة وبراهين ومقدمات وأقيسة، وانظر في الحوار الطويل الذي رواه في الحيوان عن النظام، ومعبد في تفضيل الكلب