وعلى هذا النمط يسوق الجاحظ عباراته ومزاوجاته، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما سخرت له ألفاظ اللغة تسخيرًا، فهو يختار منها ما يشاء، ويهوى في غير عنت ولا تكلف، بل في مهارة وحذق، فإذا هو يصل إلى هذه الأصوات الفخمة، أو قل هذه المركبات الموسيقية، فالموسيقى أساسية في جواهر عباراته وأعراضها، وما يسمها في باطنها وظاهرها، وإذا أنت رجعت تحلل هذه المركبات، وجدتها تنحل إلى ظاهرتين أصيلتين في كل ما يؤلف، وهما: التقطيع الصوتي من طرف، والتكرار والترداد الموسيقي من طرف آخر، أما التقطيع فهو الذي يتيح له هذه المعادلات الصوتية التي تجعل العبارات تتعادل هذا التعادل الموسيقي البديع، وكأنما قد فصلت تفصيلا وقسمت تقسيما، وأما التكرار والترداد فقد كانا شائعين في بيئة المتكلمين بسبب محاضراتهم، ومناظراتهم، وأيضا فقد شاعا على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع عند وعاظ العصر الأموي، ومن خلفوهم في العصر العباسي، وعند عبد الحميد الكاتب، وسهل بن هارون، ولكن الشيء الذي يلفت حقا هو أن الجاحظ وسعهما إلى أبعد طاقة يمكن أن تحتملها الأساليب، وما من ريب في أن هذا التكرار يضفي على أسلوبه ضروبا من الجمال، إذ نراه يستعين به على ما يريد من تقطيعات، وتوقيعات صوتية، فإذا الفكرة لا تؤدي في عبارة واحدة، ولكن في عبارتين أو أكثر، لا لسبب إلا؛ لأن الجاحظ يريد لها أداء موسيقيا بجانب أدائها المعنوي.

ومن يتابع درس الجاحظ يعرف أن هناك سببا مهما لتكراره في كتبه وترداده، وهو أنه لم يكن يكتب بل كان يملي، وقد ذكر ذلك صراحة في إحدى رسائله لابن الزيات، إذ قال له: "إن الوراق أصبح لا يخط سطرًا"1، ويذكر ياقوت أن هذا الوراق كان يسمى زكريا بن يحيى2، وإن في هذا ما يدل على أن الجاحظ لم يكن يكتب كتبه، ورسائله منذ ابن الزيات المتوفى عام 233هـ، بل كان يملي على شخص، أو أشخاص لما قدمنا من مرضه، وطبع هذا الإملاء كتبه بطابع المحاضرة، ومن ثم طبعها بطابع التكرار والترادف، كما طبعها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015