يكره الألفاظ إكراهًا على أن تؤدي هذا الجناس المفتعل الذي لا يحوي جمالًا ولا روعة فنية، وأي جمال أو روعة فنية في المجانسة بين قوت وقوتي ومروت ومروتي وأخوت وأخوتي وصوتي وصوَّتي وحوتي وحوَّتي وهواي وهوَّتي وأبوت وأبوتي؟ لكأنما عجز الشعر في هذه العصور عن أداء الجناس القديم الذي كنا نجده في القرن الثالث إلا أن يخرج إلى هذه الفنون من الالتواء والتعقيد، وانظر إلى الواو المشددة التي ختم بها أبو العلاء أبياته؛ فإنها تظهرنا على صناعته في اللزوميات؛ إذ كان يريد أن يثبت مهارته في النظم على جميع الحروف، فإذا هو يقع في مثل هذه الواو المشددة الغريبة، ولكن أي غرابة فيها؟ أَلَأَنَّها تحوي تعقيدًا وتصعيبًا؟ لقد كان التعقيد والتصعيب بدع هذه العصور، فما يزال الشاعر يعصب في فنه ووسائله وأبوابه التي يدخل منها إلى صناعته، فإذا أبو العلاء يطلب النظم على جميع الحروف ساكنة ومتحركة حركاتها المختلفة، ولكنه لا يزال يجد سهولة في الممرات التي ينفذ منها إلى شعره؛ وإذن فليصعب على نفسه أكثر من ذلك، وليطلب المجانسة بين القافية وحشو البيت حتى يحدث صعوبة، لعل أحدًا لا يستطيع أن يقلدها في فنه، أو يحاكيها في نماذجه، وكأني به رأى أن هذه الصعوبة لا تزال في دائرة الإمكان فحاول أن يدخلها في دائرة المستحيل قليلًا، وما تطور الشعر عنده إن كانت وسائله لا يزال يقدر عليها غيره من الشعراء؟ إن الفن الصحيح في رأيه هو الذي تتميز وسائله وأدواته بالعسر والمشقة؛ فإذا كان يحسن بالشاعر أن يجانس بين القافية وبين لفظة في البيت فليطلب ذلك في مكان يتعسر على غيره ولا ينقاد له. كان ذلك يدور بنفس أبي العلاء فذهب يبحث كيف يستحدث في الجناس صعوبة تبلغ به ما يريد من العسر والمشقة، وهداه بحثه -بعد كثير من التجربة والاختبار- إلى أن الحيز الذي يستطيع به أن يشق على نفسه وغيره بوضع جناسه فيه هو أول البيت وآخره؛ فهو لا يجانس بين القافية وحشو البيت، فإن هذا الجناس ربما كان لا يزال ممكنًا، إنما هو يجانس بين القافية وبين أول لفظة في البيت كما نرى في مثل قوله:
أتراكَ يومًا قائلًا عن نيَّةٍ ... خلصتْ لنفسِك يا لجوجُ ترَاكِ1