أدَرَاكَ1 دهرُك عن تقاك بجهده ... فدراكِ من قبل الفواتِ دراكِ

أَبَرَاكِ2 ربُّك فوق ظهر مطيَّة ... سارت لتبلغ ساعة الإبراك

أفَرَاكِنٌ أنا للزمانِ بمحصدٍ ... بانت عليه شواهدُ الإفراكِ3

أشرَاكَ4 ذنبُك والمهيمنُ غافرٌ ... ما كان من خطأٍ سوى الإشراكِ

فإنك تلاحظ في هذه الأبيات أن المعري عرف كيف يصعب طريقه إلى نظم هذه المقطوعة، فقد ضيق الباب بل الأبواب التي يمر منها إلى صناعة البيت، وأبى إلا أن يظهر هذا التضييق في أول كلمة يبدؤه بها؛ إذ أقام هذا الجناس المتعب بينها وبين القافية.

لقد كان الشعراء من قبل المعري يلتزمون رويًّا واحدًا في شعرهم، ولكنه رأى ذلك شيئًا سهلًا، وهو يريد الصعوبة والتعقيد فاشترط على نفسه أن ينظم على رويَّين، وكأنه أحسَّ بأن النظم لا يزال سهلًا، فذهب يبالغ في الصورة التي يمكنه أن يعقده فيها، وما زال يبالغ حتى انتهى إلى هذه الصورة من الجناس بين أول البيت وآخره والغريب أنه لم يكن يصنع ذلك في بيت واحد أو أبيات متفرقة من مقطوعاته التي يطلبه فيها، بل نراه يعممه في جميع أبياتها.

وكان إذا جنح إليه في مقطوعة طوَّلها وتجاوز بها المعتاد حتى يثبت مقدرته ومهارته في صنع هذا الجناس اللغوي الذي ما يزال يعقد فيه حتى يخرج على هذا النحو المركب؛ فهو يلتزمه في أول البيت وفي آخره، وهو يسرف على نفسه فيلتزمه في المقطوعات الطويلة أحيانًا. وحقًّا أن المعري أسرف على نفسه إسرافًا شديدًا حين جنح إلى هذا النوع من الجناس؛ ولكن كيف يثبت مقدرته على التعقيد في الشعر إن لم ينزلق إلى هذه الممرات الصعبة يجعلها طريقه إلى شعره

طور بواسطة نورين ميديا © 2015