حيث حاجاته في الحياة؛ فقد كان زاهدًا فيها زهدًا شديدًا، وكان لا يريد أن يتصل منها بشيء لا بأزواج وأولاد ولا بغير أزواج وأولاد، وهاجم فكرة الزواج والنسل في شعره كثيرًا كقوله الذي أنشدناه:

فليت حَوَّاءَ عقيمًا غدت ... لا تلد الناسَ ولا تَحْبَلُ

كان أبو العلاء برمًا بالحياة وكان يراها سلسلة آلام؛ فأكثر من نقدها ونقد الذين يعيشون فيها. وأعجب بعض الناس هذا النغم الذي يردده أبو العلاء، وراعهم أنه كان صاحب عقل حرٍّ بالنسبة لأهل عصره فهو يهاجم أصحاب الأديان؛ فذهبوا إلى أنه كان فيلسوفًا، وحشروه في زمرة الفلاسفة، ومن العجب أن نجد مثل نيكلسون1 وهيار2 يذهبان هذا المذهب، وليس لرأيهما ولا لمن تبعهما أي دليل على هذه الفلسفة إلا إذا كنا نعد كل زاهد يدعو إلى الزهد والتقشف في الحياة فيلسوفًا. وزهد أبي العلاء وما يُطوى فيه من نظر جريء إلى مسائل الدين لا يكفي لنعده فيلسوفًا بالمعنى اليوناني لهذه الكلمة إنه لم يعرف عنه أنه كان ملخصًا للفلسفة اليونانية على نحو ما صنع الفارابي وغيره من جماعة الفلاسفة المسلمين، وهو أيضًا لم يعرف عنه أنه نَمَّى مذهبًا من مذاهب الفلسفة اليونانية، ولذا كان من الخطأ أن يجعل بعض النقاد أبا العلاء فيلسوفًا بالمعنى اليوناني لهذه الكلمة، وهو لم يلخِّص الفلسفة اليونانية؛ فضلًا عن أن يكون من المنمِّين لها ولا كان من المتعلقين بمذهب من مذاهبها.

وأكبر الظن أن شبهة فلسفة أبي العلاء جاءت من أنه كان نباتيًّا يحرم على نفسه أكل اللحم واللبن والبيض والسمك وعسل النحل، وفي ذلك يقول:

غدوت مريض العقل والرأي فالقنى ... لتعلمَ أنباء الأمور الصحائح

فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالِمًا ... ولا تبغِ قوتًا من غريض الذَّبائحِ3

طور بواسطة نورين ميديا © 2015