"المستنصر صاحب مصر بذل له ما ببيت المال بالمعرَّة من المال؛ فلم يقبل منه شيئًا، وقال:

لا أطلبُ الأرزاقَ والمولى ... يفيضُ على رزقي

إن أُعْطَ بعضَ القوت أعـ ... لم أنّ ذلك فوق حقي"1

لم يكن أبو العلاء يطلب مالًا ولا عطاء؛ لأنه كان زاهدًا في حياته متقشفًا يكفيه القليل الذي يقيم أوده، أما ما دون ذلك فهو ينبذه، وماذا نريد من الدنيا وهي تنتهي بنا إلى الفناء وتسوقنا إلى الموت سوقًا حاملين ما نحمل من أثقال كروب وآلام! إن علينا أن نقوِّي أنفسنا بالزهد حتى نلقى هذا المصير المحتوم:

لا تشرفنَّ بدنيا عنك معرضة ... فما التشرُّفُ بالدُّنيا هو الشَّرَفُ

واصرف فؤادَك عنها مثلما انصرفتْ ... فكلنا عن مغانيها سننصرفُ

يا أمَّ دفرٍ2 لحاك اللهُ والدةً ... فيك العناءُ وفيك الهمُّ والسَّرفُ

لو أنك العِرسُ أوقعتُ الطلاق بها ... لكنَّك الأمُّ ما لي عنكِ منصرفُ

واستمر أبو العلاء نحو خمسة وأربعين عامًا يصرخ في الناس بهذه الدعوة الحارة إلى الزهد والتقشف؛ وبدأ بنفسه فسنَّ لها قوانين من الزهد صارمة التزمها طوال حياته؛ فلم يتعلق بشيء من زخارف الدُّنيا وزينتها؛ بل رفضها فيم رفض ورفض معها متاع الأولاد والزواج لا لسبب سوى هذا الحرمان الذي كان يأخذ نفسه به، وفي ذلك يقول:

لو أنَّ بنيَّ أفضلُ أهلِ عصري ... لما آثرتُ أن أحظى بنسلِ

وفي امتناعه عن الزواج والنسل ما يجعلنا نرى جانبًا من تشاؤمه الأسود الذي ضرب ظلماته على حياته وجميع أفكاره، ولعل ذلك ما جعله يوصي بأن يكتب على قبره:

هذا جَنَاهُ أبي علـ ... يَّ وما جنيتُ على أحدْ

وحقًّا أن أبا العلاء لم يجن على أحد لا من حيث النسل والزواج فقط بل أيضًا من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015