ونحن نعترف بأن الثقافة العلمية ضرورية للشاعر حتى يعرف أنه ليست هناك مباينة بين العلوم المبنية على الحقيقة وبين الشعر القائم على الخيال، وحتى يقرب الشعراء المسافة بين العلم والشعر، فينزعوا بشعرهم منزعًا علميًّا، يتخذونه مذهبًا أو كالمذهب، ويدققون في التعبير ويحققون في التفكير صنيع العلماء أصحاب المذاهب، أما إذا كان الشاعر لا يستوعب الثقافة العلمية إلا على هذا النحو الذي نجده عند شعراء القرن الرابع وما جاء بعده من قرون فإننا نردّه عن هذا الطريق مخالفين ابن الأثير ومن كانوا يعجبون بهذه الثرثرة التي لا تدل على شيء أكثر من الشاعر يعرف اسمها يلوكها ولا يفهمها وعلومًا يحفظها ولا يتعمقها.
ونحن نعود فنقول: إن العلم كان مِثْلُه في التفكير الفني مثل الفلسفة؛ فإنه لم يعمِّقه ولم يفتح فيه أفاقًا جديدة في التعبير والتصوير، وكان حريًّا أن يبعث في الأدب العربي مذهبًا يشبه مذهب "الريالزم" الذي شاع عند الغربيين مع النمو العلمي الواسع في القرن التاسع عشر؛ إذ دفعهم إلى اتجاه في التحقيق والملاءمة بين الواقع وحكايته أنتج هذا المذهب الفني الجديد؛ ولكن علم الشاعر العربي في العصور الوسطى استمر بعيدا عن أدبه وفنه، ولم يتسرب منه شيء إلى آثاره ونماذجه. ولعل من أكبر الدلالة على ذلك ما نراه عند الشعراء من إغرامهم بلون المبالغة، وهو لون يخالف تمام المخالفة طبيعة العقل العلمي الذي يميل إلى التحقق والتدقيق وألا تتجاوز ألفاظه ما يريد التعبير عنه، فالشعر كالعلوم الرياضية حقائق ودقة في التفكير وانحيازًا عن المبالغة وتوفيقًا بين الخيال والعقل والتصور والواقع. ومن الغريب أن هذا اللون عم حتى نجد كتب النقد والبلاغة تشيد به جميعًا، ولعله أهم لون أضافه القرن الرابع إلى الشعر، وسنرى المتنبي يستخدمه استخدامًا واسعًا في الفصل التالي؛ ولكن ينبغي أن نذكر دائمًا ما يحمله هذا اللون من الإفصاح عن الحواجز التي كانت قائمة في هذه العصور بين العلم والتفكير الفني؛ فالشاعر يخرج إلى شعوذات في الخيال والتفكير والتصور والتعبير، كأن يقول المتنبي1: