والورد للخد والعنَّاب للأصابع، والبَرَد للأسنان، ولكن كأن هذه الاستعارات لا تثير فينا شيئًا من اللذة الفنية التي كنا نشعر بها في أثناء القرنين الثاني والثالث، وانظر إلى أصل هذا البيت عند أبي نواس1.

يا قمرًا أبرزَهُ مأتمٌ ... يندبُ شجوًا بين أترابِ

يبكي فيُذرى الدرّ من نرجس ... ويلطمُ الوردُ بعنَّابِ

فإنك ترى الوأواء يأخذ ناحية التشبيه من أبي نواس دون أن يأخذ معها ما فيها من حياة وحركة، وبذلك غدا التشبيه كأنه جامد؛ فالشاعر لا يشيع فيه شيئًامن الحركة، إنما شيء واحد هو الذي يهتم به، وهو هذا الركام من الصور التي لا نحس فيها شعورًا، فقد تحجَّرت في التاريخ وأصبحت تراثًا محفوظًا في الفن. ولا بد للشاعر إذا كان يريد أن يستخدمها من أن يعيد لها حياتها وشعورها، أما أن يأتي بها على هذا النظام فإننا نحس بثقل التعبير وأنه لا يكاد ينهض بما يحمله، وكأني بهذه الصورة المحفوظة من اللؤلؤ والنرجس والعناب والبرد والورد إذا وضعناها متلاصقة على هذا النحو تعبر تعبيرًا أوسع من المعنى الذي أراده الشاعر، وماذا يريد أن يقول؟ إنه يقول: إن صاحبته بكت وعضت أناملها. ولكنه أبى إلا أن يشق على نفسه في تعبيره حتى يرضي ذوق عصره من تصنعه وتكلفه فجعل البكاء أمطارًا والدموع لؤلؤًا والعين نرجسًا والخد وردًا والبنان عنابًا والأسنان بردًا، وما فائدة الزمن؟ وما الرقي الذي أصابه الشعر في القرن الرابع إن لم يجنح الشاعر إلى مثل هذا التعقيد في صوره؟ وإنه لرقي معكوس أن يشق الشاعر على نفسه في التعبير على هذا النمط؛ فإذا بالبيت لا يعبر إلا عن تعقيد في التصوير والخيال، ولكنا لا نجد فيه حواشي من الفكر تزخرف صوره إلا كما نرى في قول المتنبي2:

بدت قمرًا ومالت خوطَ بانٍ ... وفاحت عنبرًا ورنتْ غزالا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015