فإنك تحس كأن الشاعر لا يريد أن يعبر عن صوره فقط؛ وإنما يريد قبل كل شيء أن يعقِّد في هذه الصور، فتراه يأتي بالقمر وخوط البان والعنبر والغزال، أما حبه وأما أفكاره نحو صاحبته فكأني بها لا تعنيه، ولقد كان حريًّا بالمتنبي أن يصف لنا اللذة والرغبة والحيرة والانفعالات التي يسببها الحب، ثم يتركنا نرسم الجمال نحن لأنفسنا رسمًا خياليًّا، لا هذا الرسم الذي يتحكم فيه، والذي لا يعطينا حسه إلا عن طريق هذا التركيب والتعقيد في جلب صوره ووضعها متعاقبة بهذا الشكل الذي قد يحوي شعورًا، ولكنه شعور بغير لذة.

وهذا هو معنى ما نذهب إليه من أن ألوان التصنيع تستخدم في هذا القرن، ولكن يحس الإنسان كأنها لم تعد تعبر عن أصباغها، بل كأنها أصبحت شيئًاقديمًا مألوفًا؛ فقد فقدت جمالها وزينتها، وتحولت عن ألوانها وأصباغها إلى ألوان وأصباغ باهتة، فليس هناك تصنيع ولا بديع رائع. بل إن كلمة البديع ومعناها الحديث تفقد معناها في هذه العصور فلا تعود تدل على الطريف المبتكر بل نراها تدل على غير الطريف من المكرر، يقول ابن رشيق: "والإبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستطرف والذي لم تَجْرِ العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع، وإن كثر وتكرّر1.

ونحن لا ننفي اهتمام الشعراء المتأخرين بالبديع سواء منهم من كان في المشرق أو في المغرب أو في مصر أوفي الأندلس فقد قصر الشعراء -في هذه العصور- عنايتهم على هذا البديع حتى لنرى صفي الدين الحلي يذكر في بديعيته أنها ثمرة سبعين كتابًا في هذا الفن2، وقد تلتها بديعيات كثيرة، ولكن هذا لا ينقض كلامنا؛ فقد تحوّلت ألوان التصنيع عن أصباغها، ولم يعد لها هذه الطرافة التي كنا نجدها عند الشعراء المصنعين في القرن الثالث. وكل ما يمكن أن يضاف إلى هؤلاء الشعراء المتأخرين من ابتكار هو لون التورية الذي استحدثوه؛ ولكن ألوانهم جميعًا لم تكن زاهية ولم يكن بها هذا التنويع والثراء في الأصباغ كما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015