2- التَّصنعُ في الحياةِ الفنيةِ:

غمر العقل العربي في أثناء هذه العصور بهذا الذوق من التصنع؛ فعمد إلى وسائل يصعب بها تناوله للآراء والأفكار على نحو ما كان المهلبي يصعب على نفسه في تناوله لطعامه بملاعقه. وعمّت هذه الروح في صنع النماذج الفنية؛ فالتجأ كثير من الأدباء إلى تعقيد التعبير فنونًا من التعقيد، ولعل مما يصور ذلك ما يُروى من مهارة بديع الزمان وأنه كان يستطيع أن يكتب كتابًا يقرأ فيه جوابه، أو كتابًا يقرأ من آخره إلى أوله، أو كتابًا إذا قرئ من أوله إلى آخره كان كتابًا، فإن عكست سطوره مخالفة كان جوابًا، أو كتابًا لا يوجد فيه حرف منفصل من راء يتقدم الكلمة، ودال ينفصل عنها، أو خاليًا من الألف واللام، أومن الحروف العواطل أو أول سطوره كلها ميم وآخرها جيم، أو كتابًا إذا قرئ معرجًا وسُرد معرجًا كان شعرًا، أو إذا فسِّر على وجه كان مدحًا وإذا فسر على وجه كان ذمًّا1.

ويظهر أن ذلك كان يعدّ عند كتاب العصر وشعرائه الأفق الأعلى في البلاغة والفصاحة، فانطلق الشعراء ينظمون قصائد كل ألفاظها من الحروف المعجمة أو من الحروف المهملة أو من الحروف المهموزة أو مما لا تنطبق معه الشفتان2؛ وكأن الشعر يستحيل إلى عمل لغوي، فإذا الشعراء يصنعون صنيع عمال المطابع إذ "يرصُّون" الحروف بعضها إلى بعض فتكون صناديق من الحروف، ولكن لا تتكون أبيات من الشعر إلا إذا أردنا بهذا الشعر الإفصاح عن صعوبات في التعبير وطرق الأداء. ونحن ينبغي أن نعرف أن الشعراء كانوا يعجبون بهذه التعقيدات إعجابًا شديدًا؛ فالثعالبي يذكر لنا أن الصاحب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015