ابن عباد صنع قصيدة معرَّاة من الألف التي هي أكثر الحروف دخولًا في المنظوم والمنثور فتداولها الرواة وعجبوا منها؛ فصنع الصاحب قصائد كل منها خالية من حرف من حروف الهجاء1 وحتى موسيقى الشعر والنثر لم تسلم من هذا التكلف والتعقيد في الأداء، فنحن نجد المعري في لزومياته وفصوله وغاياته يتقيد في قوافيه وأسجاعه بحرفين أو ثلاثة، كأن الوسيلة الواحدة لا تكفي للتعبير في الأدب بل يحسن أن تتعدد كما تعددت ملاعق المهلبي. ولم يصنع المعرى ذلك بمجموعة صغيرة من القصائد والرسائل، بل طبقه في ديوان ضخم من الشعر، وكتاب ضخم أيضًا من النثر.

ولعل مما يتصل بهذه الجوانب من التصعيب في الأداء ما شاع في هذه العصور من الألغاز والأحاجي؛ وقد روى صاحب اليتيمة طرفًا من هذا الجانب عند بديع الزمان2 وابن العميد3. ويقول صاحب سر الفصاحة: "وقد كان شيخنا أبو العلاء يستحسن هذا الفن ويستعمله في شعره كثيرًا ومنه قوله:

وجبتُ سرابيًّا كأن إكامَهُ ... جوارٍ ولكن ما لهنَّ نهود4

تمجَّس حرباءُ الهجير وحوله ... رواهبُ خيطٍ والنهارُ يهودُ5

فألغز بقوله جوارٍ عن الجواري من النساء وهو يريد كأنهن يجرين في السراب، وبقوله نهود عن نهود الجواري وهو يريد بنهود: نهوض، أي كأنهن يجرين في السراب وما لهن على الحقيقة نهوض. وأراد بقوله تمجس الحرباء: أي صار لاستقباله الشمس كالمجوس التي تعبدها وتسجد لها، وجعل النعام الرواهب لسوادها، ويهود: يرجع، وهو يلغز بذلك عن اليهود لما ذكر المجوس والرواهب، وكذلك قوله:

إذا صدق الجدُّ افترى العمّ للفتى ... مكارم لا تُكري وإن كذب الخال6

طور بواسطة نورين ميديا © 2015