وهذه صورة بالغة في التكلف، وهي خير من يصور الحضارة العربية في هذه العصور وكيف أنها أخذت تصعِّب في طرق أدائها، فألوان الطعام لا توضع دفعة واحدة، بل ما يزال يوضع اللون بعد اللون، وإلا ففيم تقدم الزمن ورقي الحضارة؟! ونحن نعرف أن الطريقة الأولى هي التي كانت شائعة في فرنسا في أثناء القرن الثامن عشر، ثم حلت محلها الطريقة الروسية التي تشبه طريقة ابن الفرات وعمت في أوربا جميعها1:
وليس من شك في أن هذا يدل -من بعض الوجوه- على ما أصاب العقل العربي من تصنع في الأداء ينحاز به عن الطرق الطبيعية في التعبير، سواء تعبير المعيشة أم تعبير التفكير. ولعل من الطُّرف التي تصور لك تصويرًا أوسع من طريقة ابن الفرات في مآدبه ما انتهى إليه المهلَّبي الوزير المعروف من تصنعه في تناول طعامه فهم يذكرون أنه "كان إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجًا مجرودًا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها في ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية"2
وهذا الصنيع المعقد يدل على ما انتهت إليه الحضارة العربية -في هذه العصور- من تجديد، وهو تجديد لا يتناول موادها والتنويع فيها؛ إنما يتناول وسائلها والتصعيب في طرق أدائها وما قد يكلف به الناس من التعلق بأشياء غريبة؛ فهم يغربون في حياتهم وتفكيرهم إغراب المهلبي بملاعقه، وكانت تكفيه ملعقة واحدة يتناول بها ما يريد؛ ولكنه كان يريد شيئًا آخر؛ غير تناول الطعام، وما الفرق بينه وبين بقية الناس إن أكل على طريقتهم بملعقة واحدة؟! إنه ينبغي أن يختلف عنهم وإلا ففيم وزارته؟ وفيم رقيّه عمن حوله؟ لذلك كنا نراه يشفع طعامه بشيء غريب هو هذه الملاعق التي يعقده بها؛ ولكنه تعقيد لا يضيف طرافة، إنما يضيف تصنعًا إن كان التصنع شيئًا طريفًا في ذاته.