مهما بحثت في هذه العصور فلن تجد إلا تصنعًا شديدًا في جميع شئون الحياة؛ إذ يعيش الناس معيشة كلها تكلف وتصنع وتحذلق على ضروب وفنون مختلفة، فقد أترفت الحضارة العربية وأترف الفكر العربي، ولم يعد هناك إلا التصنع والتكلف في شئون الحياة، حتى لنجد لعضد الدولة بشيراز قصرًا مؤلفًا من ثلاثمائة وستين حجرة ليجلس كل يوم في واحدة إلى الحول1. أرأيت إلى هذا الترف وهذا التعقيد في الحياة؟ بل إنا لنراهم يعقدون الموت نفسه؛ فقد كفِّن تميم بن المعز عام 375هـ في ستين ثوبًا2. وكأنما الحضارة العربية لم تعد تجد الوسائل الطبيعية لتعبيرها فأخذت تبحث عن الوسائل الجديدة من التكلف، وهي وسائل لا تضيف جمالًا، إنما تضيف تعقيدًا إن كان التعقيد شيئًا يطلب لذاته.
ولعل مما يصور هذا التعقيد بصورة أوضح ما يروى عن الوزير ابن الفرات في مآدبه من أنه "كان يدعو إليها في كل يوم تسعة من الكتَّاب الذي اختص بهم، وكان منهم أربعة نصارى؛ فكانوا يقعدون من جانبيه، وبين يديه، ويقدم إلى كل واحد منهم طبق فيه أصناف الفاكهة الموجودة في الوقت من خير شيء، ثم يجعل في الوسط طبق كبير يشتمل على جميع الأصناف، وكل طبق فيه سكين يقطع بها صاحبها ما يحتاج إلى قطعه من سفرجل وخوخ وكمثرى، ومعه طست زجاج يرمى فيه بالثُّفل، فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفوا كفايتهم رفعت الأطباق وقدمت الطسوت والأباريق؛ فغسلوا أيديهم وأحضرت المائدة مغشاة بدبيقي فوق مكبة خيازر، ومن تحتها سفرة أدم فاضلة عليها، وحواليها مناديل. فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية وأخذ القوم في الأكل، وأبو الحسن بن الفرت يحدثهم ويؤانسهم ويباسطهم فلا يزال على ذلك والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين، ثم ينهضون إلى مجلس في جانب المجلس الذي كانوا فيه، ويغسلون أيديهم، والفرَّاشون يصبون الماء عليهم، والخدم وقوفٌ على أيديهم المناديل الدبيقية ورطليَّات ماء الورد لمسح أيديهم وصبِّه على وجوههم"3.