أضواء، وإذا الأضواء ظلال، وإذا الليالي أسحار، وإذا الأسحار ضحى، وإذا الصبح مغرب والنهار المشمس ليل مقمر، بل إذا الصحو يمطر والمطر يصحو:
مطرٌ يذوبُ الصحوُ منه وبعده ... صحو يكاد من النضارة يُمطرُ
أرأيت إلى هذه الصورة الغريبة من المطر الذي يذوب منه الصحو، والصحو الذي يذوب منه المطر؟ ثم أرأيت إلى هذه النضارة الخاصة التي توشك أن تجعل الصحو يمطر؟ إنها نضارة غريبة يعرف عقل أبي تمام كيف يحيلها إلى هذه الصورة من الحياة والمطر. وإن كنت تعجب من هذه النضارة الممطرة؛ فارجع إلى شعره تجد نضرة أخرى شاحبة ولكن لا تقل
عنها غرابة؛ إذ يقول:
رب خفضٍ تحت السُّرى وغناءٍ ... من عناءٍ ونضرةٍ من شُحُوب1ِ
فالنضرة قد تكون زاهية، وقد تكون باهتة، ويستخرج أبو تمام من أحوالها صورًا متضادة؛ فإذا هو يؤثِّر في مشاعرنا وينفخ في أرواحنا وعقولنا بهذا البوق الغريب من نوافر الأضداد. وإنا لنتبين من خلال هذا الصنيع كيف كان يملك أبو تمام ناصية الفن والفلسفة جميعًا؛ فهو يعرف كيف يستخدم الفلسفة في شعره استخدامًا فنيًّا؛ إذ يمزج بينها وبين ألوان التصنيع القديمة التي تركها أستاذه مسلم فتخرج له ألوان تصنيع جديدة.
الأَقْيَسةُ الفَنِّيَّةِ:
ولعل مما يتصل بذلك ما نراه عنده من استخدام الأقيسة المنطقية؛ فقد كان يستغلها استغلالًا فنيًّا إذ ما يزال بها حتى يغير شياتها المنطقية ويحدث لها شيات جديدة من الشعر والفن. إنها لم تعد أقيسة منطقية بالمعنى القديم بل أصبحت أقيسة فنية، يمتزج فيها القياس المنطقي بالموسيقى والشعر والتصوير. وانظر إلى هذا القياس الطريف يقوله في الرثاء:
إن ريبَ الزمانِ يحسن أن يهـ ... دي الرَّزايا إلى ذوي الأحسابِ.