أصل كبرد العَصبِ نيطَ إلى ضُحى ... عبقٍ بريحان الرياض مطيَّبِ1
وظلالُهنَّ المشرقاتُ بخرَّد ... بيضٍ كواعبَ غامضاتِ الأكعُبِ
فهو يتصور الظلال مشرقة إشراق الشمس، وهو يتصور الضياء مظلمًا ظلام الليل، وهو على هذه الشاكلة يشوِّه في الطبيعة تشويهًا يزينها؛ فإذا الظلال مشرقة، وإذا الأضواء مظلمة، بل إن جوانب اليوم نفسه ليحل بعضها مكان بعض في ارتباك طريف؛ فالصبح كأنه مغرب على نحو ما نرى في وصف أخلاق الحسن بن وهب:
متعت كما متع الضحى في حادثٍ ... داجٍ كأن الصبحَ منه مغربُ2
والليالي كأنها أسحار، يقول في بعض ممدوحيه:
أيامنا مصقولة أطرافُها ... بك والليالي كلُّها أسحارُ
والأسحار كأنها ضحى، يقول في وصف الربيع:
لما بكت مُقَلُ السحابِ حيًا ... ضحكت حواشي خدِّه التَّربِ
فكأنه صبحٌ تبسم عن ... سحر ضئيل في ضُحى شحِبِ
بل أنوار الشمس مختلطة بأزهار الرُّبى كأنها أضواء القمر:
يا صاحبيَّ تقصَّيا نظريكما ... تريا وجوهَ الأرضِ كيف تصوَّرُ
تريا نهارًا مشمسًا قد شابَهُ ... زهرُ الرُّبى، فكأنما هو مقمرُ
وعلى هذا النمط تمتزج أصباغ الطباق عند أبي تمام بهذه الأصباغ الفلسفية الغريبة من نوافر الأضداد؛ فإذا بها تخرجنا من أوقاتنا التي تقيدنا، وتطلقنا من عقال أمكنتنا، وتجعلنا نتحرر في داخلنا من كل ما يتعلق بنا. ولعل هذا هو معنى ما يقولونه من أن الشاعر الممتاز له جو غريب ينقلنا من عالمنا الذي نعيش فيه إلى عالم آخر طليق من الوهم، عالم ينشر فيه أبو تمام من عبق هذه الأضداد ما يؤثر به على أعصابنا وحواسنا تأثيرا يخلد في أذهاننا، فإذا الظلال