ومن يدرس أبا تمام يرى هذه الأضداد متصلة بأخلاقه فهو تارة كريم جدًّا وتارة بخيل جدًّا، وهو تارة متدين مسرف في تدينه وتارة ملحد مسرف في إلحاده. يقول صاحب مروج الذهب: "كان أبو تمام ماجنًا خليعًا في بعض أحواله، وربما أداه ذلك إلى ترك موجبات فرضه تماجنًا لا اعتقادًا. قال المبرد وهو مع هذا الذي يقول:

وأحقُّ الأنام أن يقضي الدَّيـ ... ـن امرؤٌ كان للإله غريما

وهذا قول مباين لهذا الفعل1. وبينما نرى في ديوانه وصفًا لحِجَّة حجَّها، إذا بهم يروون أنه ظهر منه في أثناء زيارته لابن رجاء بفارس ما جعل هذا الوالي يرتاب في قيامه بفروض الدين فسأله عن ذلك؛ فأبدى أنه يشك في قيمة أداء هذه الفروض2.

وكل ذلك يدل على أن عقل أبي تمام كان مفعمًا بنوافر الأضداد، وقد راح يستخدمها في أبياته استخدامًا فنيًّا واسعًا؛ فإذا هي تتحول إلى لون زاهٍ من ألوان الفن الزاهية. واقرأ هذا البيت يقول في بعض ممدوحيه:

صيغت له شيمةٌ غرَّاء من ذهب ... لكنها أهلكُ الأشياءِ للذَّهبِ

فستجدك أما تفكير جديد، شيء يهلك نفسه، بل هو ذهب يهلك نفسه هذا الإهلاك الغريب الذي يستخرجه أبو تمام من نوافر الأضداد؛ فإذا هو يعبر عن ممدوحه بصورة متضادة، صورة ذهبية تروع السامعين لغرابتها وما بها من لمعان الذهب، بل من لمعان الفلسفة والفن، وانظر إلى قوله:

بيضاء تَسري في الظلام فيَكتسي ... نورًا وتسرُبُ في الضياءِ فيُظْلِمِ

أرأيت إلى هذا التضاد وهذا الضياء المظلم؟ إن حقائق الأشياء تتغير في شعر أبي تمام على هذه الصورة التي نرى فيها الضياء المظلم وإنه لضياء عجيب لا يستطيع شيء أن يعبر عن فتنته؛ إلا أن يعود أبي تمام فيأتي بصورة أخرى ولكنها متعاكسة، صورة ظلال مشرقة؛ إذ يقول:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015